تخيل نطفةً تسبح ضمن القناة التناسلية لأنثى، وتُجدّف بذيلها للأمام والخلف سعياً منها لبلوغ غايتها الكبرى، وهي تلقيح البويضة. تقترب هذه النطفة وزميلاتها من البويضة ثم تخترق الطبقة الخارجية منها، لتحتدم المنافسة فيما بينها، فتبذل كل نطفةٍ منهن قُصارى جهدها لاختراق الحاجز الواقي للبويضة ومن ثم اقتحامها والظفر بها، وإلحاق الهزيمة بباقي النطاف. لقد خُلقت جميع النطاف من أجل هذه اللحظة التاريخية! يُذكر بأن دفقة من الكالسيوم تصب على ذيل النطفة كفيلة بتسريع حركتها وجعل ذيلها يُجدّف بقوة أكبر، مما يسمح للنطفة باختراق الحواجز الدفاعية للبويضة. يمارس هرمون البروجسترون دوراً أساسياً في تحرير الكالسيوم، حيث يرتبط بإنزيم موجود في الغشاء البلازمي للنطفة مما يُحفز قناةً للكالسيوم ضمن النطفة تُدعى "كاتسبر". ولحسن حظ النطفة، فإن القناة التناسلية للأنثى في فترة الإباضة تحتوي على وفرة من هذا الهرمون.
إلا أن مشكلةً تحدث فجأةً وسط هذه الازدحام. فلا تتحفز قناة الكالسيوم، وبدلاً من أن تتسارع ضربات ذيل النطفة، يبقى الذيل بنفس حركته الاعتيادية، فتعجز النطفة عن الولوج إلى داخل البويضة. ما الخطب؟ وما الذي أدى ذلك؟
عُذراً أيتها النطفة، فلست قادرةً على التغلب على مادة بريستيميرين! فهذا المُستخلَص النباتي الطبيعي غير الهرموني والذي يُشبه في بنيته البروجيسترون، يستطيع الارتباط بنفس المستقبلات التي يرتبط بها البروجيسترون على النطفة، فيمنع تحفيز قناة الكالسيوم، وبالتالي تبقى النطفة بنفس وتيرتها الحركية الأصلية، وتعجز عن القيام بمهمتها. تقول ناديا ماناويتز، الأستاذة بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، في حديثها لموقع بوبيولار ساينس: "تتمتع هذه المادة بفعالية قوية، وإن تراكيز ضئيلة جداً منها تكفي لإحداث التأثير المطلوب". قامت ماناويتز وزملاؤها باختبار فعالية العديد من الهرمونات والمركبات النباتية على قناة كاتسبر لفهم دورها في عملية الإخصاب، وما إذا كان من الممكن تثبيطها أو تنشيطها. وقد نُشرت نتائج تحرّياتهم الأسبوع الفائت في مجلة محاضر الأكاديمية الوطنية للعلوم.
قام الباحثون بتعريض النطاف إلى هرموني التستوستيرون والإستروجين، بالإضافة إلى هرمون الكورتيزول الذي ترتفع مستوياته في أثناء الشدة النفسية. من الطبيعي أن يقع اختيار الباحثين على التستوستيرون والإستروجين، فهما من أهم الهرمونات الجنسية لدى الذكور والإناث على التوالي، أما الكورتيزول فقد وقع الاختيار عليه لأن الشدة النفسية تؤثر سلباً في الإخصاب بآلية لا تزال غير واضحة تماماً. تتنافس هذه المواد الثلاثة مع البروجيسترون على مستقبلات قنوات الكالسيوم المهمة، وهو ما يُعيق النطاف من تسريع حركتها. ولكن وحدهما التستوستيرون والكورتيزول من يستطيعا إحداث مثل هذا التأثير ضمن بيئة الجسم البشري، وذلك يعني بأن الشدة النفسية بالإضافة إلى ارتفاع مستويات الهرمونات الذكرية قد يعيقا عملية الإخصاب، أما الإستروجين، الذي يرتفع مستواه في الجسم قُبيل البدء بإنتاج البروجيسترون فقط، فمن المفترض ألا يؤدي إلى تلك المشكلة.
من الضروري إجراء المزيد من الدراسات لمعرفة المزيد حول الآثار المحتملة لتلك الهرمونات، وعلى أي المستويات يمكن أن تحدث بحيث تُعيق تخصيب البويضة في الجسم البشري. ولكن ماناويتز وزملاءها لم يتوقفوا عند هذا الحد. ففي سياق بحثهم وجدوا بأن مادة بريستيميرين (مركب كيميائي غير ستيروئيدي يُوجد في نبات يُدعى تريبتيرجيوم ويلفوردي) تتمتع ببنية جزيئية مشابهة للبروجيسترون مما يُمكّنها من الارتباط بنفس المستقبلات التي يرتبط بها البروجيسترون. وكان قد جرى استخدام عُشبة تريبتيرجيوم ويلفوردي في الطب الصيني الشعبي، حيث أُطلق عليها اسم "كرمة آلهة الرعد"، واستُخدمت في علاج التهاب المفاصل وغيره من أمراض المناعة الذاتية، كما عُرف عنها قدرتها على إضعاف القدرة الإنجابية. يمكن للعشبة بحد ذاتها أن تكون سامة للغاية، ولم يجرِ حتى الآن تقصّي فوائدها أو أضرارها أو آثارها الجانبية المحتملة بشكل وافٍ، وبالتالي فلا يُنصح باستخدامها كمانع حمل في الوقت الراهن. ولكن عند تعريض النطاف في المختبر إلى جرعات من مادة بريستيميرين، فإن النتائج كانت واضحة للغاية. كما لاحظ الباحثون نتائج مشابهة مع مادة لوبيول، وهي مركب يُوجد في ثمار المانجا وجذور الهندباء. تقول المُعدة المساعدة للدراسة بولينا ليشكو: "بما أن كلا المُركَّبين النباتيين يمنعان حدوث الإخصاب باستخدام تراكيز منخفضة جداً منهما -تقل بعشرة أضعاف عن تراكيز أقراص ليفونورجيستريل المُستخدمة حالياً لمنع الحمل- فيمكن أن يُشكلا الجيل الجديد من موانع الحمل الإسعافية والتي يُطلق عليها اسم الواقيات الذكرية الجزيئية". وتُضيف ليشكو: "إذا كان من الممكن منع حدوث الحمل باستخدام مشتق نباتي غير سام وغير هرموني وبتركيز منخفض، فقد يكون ذلك هو الخيار الأول للراغبين بمنع الحمل مستقبلاً". وتأمل ماناويتز أن تكون هذه المركبات النباتية آمنة للاستخدام.
ففي تصريح لموقع بوبيولار ساينس، قالت ماناويتز: "إننا مقتنعون بأن هذه المُشتقّات العشبية غير سامة. فالنطاف كائناتٌ حساسة جداً للمواد السامة، ومن الممكن ملاحظة تأثيراتها عليها وعلى حركتها بشكل مباشر. ولم نلاحظ بدورنا أن استخدام هذه المُستخلصات النباتية قد سبب ضرراً للنطاف، حتى وإن كان بتراكيز عالية". وبما أن هذه المركبات الكيميائية غير هرمونية، فيأمل الباحثون أن تكون آثارها الجانبية أقل من الآثار الجانبية التي تتركها موانع الحمل الهرمونية أو مختلفة عنها على أقل تقدير. فكثيراً ما تُسبب موانع الحمل الهرمونية النسائية أعراضاً جانبيةً خفيفة إلى متوسطة الشدة، مثل تبدلات الوزن وتقلبات المزاج، وقد تزيد أيضاً من خطر تخثر الدم وتشكل الصمّات، مما قد يودي بحياة المرأة. وعند سؤال ماناويتز عن إمكانية أن تتسبب مادة بريستيميرين بحدوث مشاكل في مواضع أخرى من الجسم، أفادت بأنه لا بد من إجراء المزيد من الدراسات لتحري ذلك.
تقول ماناويتز: "من الضروري جداً إجراء المزيد من الدراسات حول هذا الأمر، وذلك لأن البروتين الذي يتأثر بهذه المركبات النباتية لا يوجد في النطاف وحسب، بل يوجد في العديد من أنسجة الجسم الأخرى". إذاً لا بد من انتظار نتائج الدراسات المستقبلية قبل إطلاق الأحكام النهائية. ومن جهةٍ أخرى فإن الباحثين يعكفون على دراسة ما إذا كان يمكن لهذه المواد الكيميائية أن تُقلل من الخصوبة على المدى الطويل أو أن تُسبب الأذى للجنين مستقبلاً.
وبحسب الباحثين، فإن الخطوة التالية الآن هي إجراء تجارب على النسج التناسلية في قردة الريزوس، ومن ثم إجراء تجارب مخبرية تُلقَّح فيها إناث القردة بنطاف مُعالجة بهذه المواد الكيميائية تارةً، وبنطاف لم تُعالج بها تارةً أخرى. من جهةٍ ثانية، لا يزال أمام الباحثين الكثير من الوقت والجهد قبل أن يتمكنوا من إجراء تجاربهم على البشر. كما ينبغي عليهم البحث عن طرق بديلة لاستخلاص أو إنتاج هذه المواد الكيميائية في حال الرغبة بتوظيفها للاستخدام التجاري، إذ إن تكلفتها الحالية مرتفعة جداً.
من الجدير ذكره أن ثمة أسباب أخرى تدفعنا للاهتمام بهذه "الواقيات الذكرية الجزيئية" وترقّب نتائجها. فلطالما تذرّع مناهضو الإجهاض بأن بعض موانع الحمل تمنع البويضة المُلقحة من الانغراس ضمن الرحم، ما يعني بأنها تقضي على حياة كائن حي. ولكن، بما أن آلية عمل موانع الحمل العُشبية هي منع حدوث الإخصاب أو التلقيح من أساسه، فقد تُخفف من حدة ذلك الجدل. والأهم من ذلك، أن ماناويتز وزملائها يعتقدون بأن هذه المستخلصات العشبية قد تصلح لأن تكون موانع حمل يمكن استخدامها من قبل الذكور والإناث على حدٍ سواء. فيتناولها الرجل لإعاقة حركة نطافه ومنعها من تلقيح البويضة. أما المرأة فتتناولها لكي تجعل قناتها التناسلية طريقاً وعراً أمام النطاف تعجز عن التقدم والحركة فيه. كما نذكر أيضاً بأن جهود ابتكار مانع حمل فموي للرجال تسير ببطء ولم تُفضِ إلى نتائج حقيقية حتى الآن، وبالتالي فإن ابتكار حبوب منع حمل يمكن تناولها من قبل الرجال أو النساء سيكون بلا شك فتحاً علمياً مُرحباً به.