قبل بضع سنوات، وفي مدينة ديترويت، قفزت مجموعة من حوالي 15 طفلاً أعيد توطينهم كلاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا ورقصوا وهم يلوحون بشرائط ذات ألوان زرقاء ووردية وبيضاء في الهواء.
كان المشهد الآسر رمزياً للغاية؛ حمل كل شريط فكرة أو شعور أو ذاكرة سلبية كتبها الأطفال عليه. في انسجام تام، أطلق الأطفال الشرائط في الهواء، ثم جلسوا في مكان قريب، ثم قاموا بجمع الشرائط الساقطة؛ والتي حملت معاناتهم الجماعية ومصاعبهم، وألقوا بها في سلة المهملات ولوحوا بالوداع.
كان الأطفال يشاركون في نشاط للعلاج بالرقص كجزء من برنامج بحث خاص بفريقنا يهدف لاستكشاف المقاربات الجسدية لعلاجات الصحة العقلية لدى الأشخاص الذين أِعيد توطينهم كلاجئين.
في عام 2017، بدأ مختبرنا؛ واسمه «عيادة أبحاث الإجهاد والصدمات والقلق»، في تجريب العلاجات بالحركة (العلاج بالرقص) للمساعدة في معالجة الصدمات لدى أسر اللاجئين. نحن نتعلم أن الحركة قد لا توفر فقط وسيلةً للتعبير عن الذات؛ ولكنها تمثّل أيضاً طريقةً للشفاء واستراتيجيات طويلة الأمد للتعامل مع التوتر.
وسطياً؛ يتم إعادة توطين حوالي 60 ألف طفل كل عام كلاجئين في الدول الغربية. الآن؛ تثير أزمة اللاجئين الناتجة عن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان الانتباه مجدداً لاحتياجات هؤلاء اللاجئين. تقدر وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أن 6 ملايين أفغاني قد نزحوا على مدى السنوات الـ 40 الماضية، وأن موجة جديدة من عشرات الآلاف تفر الآن من حكم طالبان.
أنا عالمة أعصاب متخصصة في الطريقة التي تعيد فيها الصدمات تشكيل الجهاز العصبي عند الشباب، أستخدم هذه المعلومات لاستكشاف الفنون الإبداعية والعلاجات القائمة على الحركة لعلاج التوتر والقلق. إن غريزة تحريك الجسد بطرق معبرة قديمة قدم الإنسانية؛ لكن الاستراتيجيات القائمة على الحركة مثل العلاج بالرقص لم تُعطَ اهتماماً كبيراً إلا مؤخراً في مجال علاج الأمراض العقلية.
بصفتي راقصةً؛ وجدت دائماً أن التعبير العاطفي غير اللفظي عن طريق الحركة له آثار علاجية مذهلة - خاصةً عندما كنت أعاني من القلق والاكتئاب الشديد في مرحلة المدرسة الثانوية والجامعة. الآن؛ من خلال بحثي في علم الأعصاب، فقد انضممت إلى عدد متزايد من العلماء الذين يعملون على تجميع المزيد من الأدلة التي تدعم التدخلات القائمة على الحركة.
جسد وعقل واحد
خلال جائحة كوفيد-19؛ تضاعفت نسب القلق والاكتئاب بين الشباب. نتيجةً لذلك؛ يبحث العديد من الأشخاص عن طرق جديدة للتأقلم مع الاضطرابات العاطفية والتعامل معها.
علاوةً على الجائحة؛ ساهمت النزاعات حول العالم، بالإضافة إلى تغير المناخ والكوارث الطبيعية، في تفاقم أزمة اللاجئين العالمية. تزيد هذه الأزمة الحاجة للموارد بهدف إعادة التوطين والتعليم والعمل والصحة البدنية، والأهم من ذلك؛ الصحة العقلية.
التدخلات التي تتضمن النشاط البدني والمقاربات الإبداعية في الوقت الذي يعاني فيه الأطفال والأشخاص من جميع الأعمار بالخمول وقلة الإثراء البيئي يمكن أن تكون مفيدةً أثناء الجائحة وما بعدها. قد تكون الفنون الإبداعية والتدخلات القائمة على الحركة مناسبة تماماً لمعالجة ليس فقط الجوانب العاطفية؛ ولكن أيضاً الجوانب الجسدية للأمراض العقلية؛ مثل الألم والإرهاق. غالباً ما تساهم هذه العوامل في الكرب الشديد والخلل الوظيفي الذي يدفع الأفراد إلى السعي للحصول على الرعاية الصحية.
ما المميز في العلاج بالرقص والحركة؟
من المعروف أن حركة الجسم بحد ذاتها لها العديد من الفوائد؛ ومنها تقليل مشاعر التوتر، وتخفيف الالتهابات في الجسم، وحتى تعزيز صحة الدماغ. في الواقع؛ يدرك الباحثون أن غالبية تواصلاتنا اليومية غير لفظية، وأن الذكريات المؤلمة تُرمّز أو تُخزّن في أجزاء من الدماغ لا علاقة لها بالكلام. نحن نعلم أيضاً أن الإجهاد والصدمة يتركان آثاراً في الجسم، لذلك من المنطقي أنه من خلال الممارسات الموجهة، يمكن الاستفادة من الحركة لرواية القصص وتجسيد العواطف والتعبير عنها ومساعدة الناس على تجاوز الأزمات.
تركّز جلسات العلاج بالرقص والحركة على تعزيز الإبداع والقدرة على التكيف لمساعدة الأشخاص على تطوير قدر أكبر من المرونة المعرفية والتنظيم والتوجيه الذاتيين. هذا مهم بشكل خاص لأن الأبحاث تُظهر أن التجارب المبكّرة في الحياة والطريقة التي يعتاد الأطفال على التكيّف معها يمكن أن يكون لها تأثير طويل الأمد على صحتهم في مرحلة البلوغ.
وفقًا لتقرير الصحة العقلية الخاص بالأطفال التابع لمعهد «تشايلد مايند»، فإن 80% من الأطفال الذين يعانون من اضطرابات القلق لا يتلقون العلاج الذي يحتاجونه. قد ينتج هذا عن عوائق مثل توافر الأطباء والأمية الثقافية والتكلفة وإمكانية الوصول للعلاجات، كما يمكن أن ينتج من وصمة العار المرتبطة بظروف الصحة العقلية وعلاج الأمراض العقلية.
لقد وجدنا أن العلاج بالرقص والحركة وبرامج الصحة السلوكية الجماعية الأخرى يمكن أن تساعد في سد فجوات مهمة في طرق العلاج التقليدية. على سبيل المثال؛ يمكن استخدام هذه الاستراتيجيات جنباً إلى جنب مع العلاجات التي يتلقاها الأشخاص، كما أنها تمثّل خياراً سهل المنال وذو تكلفة معقولة في بيئات المدرسة والمجتمع. يمكن للعلاج بالرقص والحركة أيضاً تعزيز مهارات التأقلم وتقنيات الاسترخاء التي يمكن أن تدوم مدى الحياة بمجرد تعلُّمها.
هل العلاج بالرقص والحركة فعّال؟
تُظهر أبحاثنا وأبحاث علماء آخرين أن العلاج بالرقص والحركة يمكن أن يزيد شعور الأطفال بالقيمة الذاتية، ويحسن قدرتهم على تنظيم عواطفهم وردود أفعالهم ويمكّنهم من التغلب على العقبات.
مثل اليوغا والتأمّل، فإن العلاج بالرقص والحركة يركّز في الأساس على التنفس العميق من خلال عضلة الحجاب الحاجز. تعمل حركة التنفس القسرية هذه على دفع العصب المبهم فيزيائياً وتنشيطه، هذا العصب هو عصب كبير ينسق عدداً من العمليات الحيوية في الجسم. عندما أعمل مع الأطفال، أسمي هذا النوع من التنفس وتنشيط الأعصاب «القوّة الخارقة». كلما احتاج الأطفال أن يهدؤوا، يمكنهم أخذ نفس عميق، ومن خلال تنشيط العصب المبهم؛ يمكنهم وضع أجسادهم في حالة أكثر راحةٌ وأقل استثارةً.
أشار تحليل لـ 23 دراسة بحثية سريرية إلى أن العلاج بالرقص والحركة قد يكون طريقةً فعالةً ومناسبةً للأطفال والكبار والمرضى المسنين الذين يعانون من مجموعة واسعة من الأعراض؛ ومن ضمنهم المصابون بأمراض نفسية والمرضى الذين يعانون من اضطرابات في النمو. بالنسبة للأصحّاء والمرضى على حد سواء؛ استنتج المؤلفون أن العلاج بالرقص والحركة كان أكثر فاعليةً في تقليل حدة القلق مقارنة بالأعراض الأخرى. أظهرت الأبحاث التي أجراها فريقنا أيضاً أن العلاج بالرقص والحركة يبدو واعداً في تقليل أعراض اضطراب ما بعد الصدمة والقلق لدى الشباب الذين يُعاد توطينهم كلاجئين.
لقد قمنا بتوسيع نطاق هذه البرامج، وطوّرنا نسخةً افتراضيةً منه أصبحت تُدرّس في الفصول الدراسية التي تُنجز عبر الإنترنت في 6 مدارس في جميع أنحاء منطقة «مترو ديترويت» أثناء جائحة كوفيد-19.
ربما يكون الدليل الواعد على فعالية العلاج بالرقص والحركة -كما يقول المثل- ليس «ما لا تستطيع العين رؤيته»؛ بل «ما يمكن لها أن تراه»؛ يطلق الأطفال الشرائط، ويطلقون معها عواطفهم وذكرياتهم السلبية، ويودّعونها وهم يتطلعون إلى يوم جديد.