استخدام أشكال متعددة من وسائل الاتصال (الوسائط) بنفس الوقت -مثل الإجابة على رسائل البريد الإلكتروني أو تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي أثناء مشاهدة التلفاز- أصبحت جزءاً اعتيادياً من حياتنا اليومية، لكن خلال العقدين الأخيرين، درس علماء النفس الآثار التي يمكن أن تنتج من ذلك على أدمغتنا. يقترح الباحثون في دراسة نُشرت في 28 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في دورية نيتشر أنّ الإفراط في تعدُّد المهام في استخدام وسائل الاتصال يؤثّر على جودة تذكُّر الأشخاص لبعض الأحداث المعيّنة، وحتى تلك الأحداث التي وقعت في الأوقات التي لم يكونوا يستخدمون فيها أي شكل من التكنولوجيا على الإطلاق.
شمل الباحثون 80 مشاركاً تتراوح أعمارهم بين 18 و 26 سنة؛ نصفهم كان من النساء. طُلب من كل مشارك مشاهدة سلسلة من الأشياء التي تومض على شاشة، وبعد 10 دقائق من الاستراحة، شاهد المشاركون سلسلة أخرى من الأشياء وصنّفوها من نواحٍ؛ مثل هل كانت الأشياء في السلسلة الثانية مستحبّة أكثر من تلك في الأولى أم لا، أو إذا كانت أكبر أو أصغر. شملت السلسلة الثانية أشياء كانت موجودة في الأولى، وأحد المعايير التي طُلب من المشاركين مراعاتها هي إذا ما كانوا قد رؤوا الصور من قبل.
قدّم المشاركون معلومات عن معدّل تعدُّد المهام الخاص بهم في استخدام وسائل الاتصال؛ مثل تصفُّح الإنترنت ومشاهدة التلفاز، أو إرسال الرسائل النصيّة خلال إنجاز الوظائف الدراسية على الإنترنت. يقول «كيفن مادور»؛ وهو مؤلف الدراسة الجديدة في بريد إلكتروني لنا: «وجدنا أنّ الإفراط في تعدُّد المهام كان مرتبطاً بتغيير ملحوظ في القدرة على التذكُّر. بالتحديد، حَكَم المشاركون؛ الذين اعتبروا أنفسهم يقومون بتعدُّد المهام بشكلٍ مفرط في وسائل الاتصال، على عدد أكبر من الأشياء التي رؤوها من قبل على أنها جديدة، وكانوا عرضة أكثر ليحكموا على أشياء جديدة على أنها مكررة».
قِيس كل من الأمواج الدماغية للمشاركين وتوسُّع حدقات عيونهم خلال الجلسات، فهذه المتغيّرات تُستخدم بشكلٍ واسع في علم النفس لقياس الذاكرة والانتباه. وجد الباحثون أنّ مُفرطي تعدُّد المهام عانوا من ضعف في الانتباه في اللحظة قبل محاولتهم تذكُّر الفرق بين الشيء الظاهر أمامهم والأشياء السابقة. تشير هذه المكتشَفات بالنسبة للباحثين بأنّ الذاكرة العرضيّة -وهي ذاكرة الأحداث المعيّنة السابقة- كانت أضعف عند هؤلاء الذين يُفرطون في تعدُّد المهام في استخدام وسائل الاتصال المختلفة، وأنّ لديهم قدرة أضعف على الحفاظ على الانتباه.
هذه المكتشَفات يمكن أن يكون لها عواقب جمّة. أرسل مادور لموقع بوبساي قائلاً: «التبعات العلمية الأساسية لهذا البحث مهمة لأنها توفّر لنا أجوبة جديدة تُفسّر لِمَ يتذكّر البشر أحياناً، وينسون أحياناً أخرى، ولِمَ بعض الأفراد لديهم ذاكرة أفضل من غيرهم».
تبعات البحث الجديد على صحة البشر جديرة بالذكر أيضاً حسب قول مادور: «هذه النتائج تشير إلى وجود صلات مهمة يجب علينا إدراكها بين تعدُّد المهام في هذا السياق، والقدرة على الانتباه وقوة الذاكرة».
تُضاف النتائج الجديدة إلى مجموعة من المعلومات حول أهمية تعدُّد المهام في استخدام وسائل الاتصال عند صغار السن. وجدت دراسات في إحدى الأوراق البحثية السابقة: «فهم أنواع معالجة المعلومات التي يتطلبها العيش في ظروف التعليم في القرن الـ 21 هو أمر مهم».
تُبيّن «زينج جويس وانج»؛ أستاذ في الاتصالات في جامعة ولاية أوهايو، والتي تَدرُس تعدُّد المهام في وسائل الاتصال، أنه ليست كل أشكال تعدُّد المهام في استخدام وسائل الاتصال على قدر من المساواة. قد يخطر على بالك أولاً عندما تفكر في هذا طالبٌ يشاهد التلفاز خلال الدراسة، لكن تُبيّن وانج أنّ: «الأشخاص ضمن صف درسي مثلاً؛ والذين يبحثون خلال الدرس عن مفاهيم لها علاقة فيه هم يمارسون تعدُّد المهام أيضاً».
تُشيد وانج بالمقاربة المتّبعة في الدراسة الجديدة وتتشوق للنظر في الآثار بعيدة الأمد لتعدُّد المهام في استخدام وسائل الاتصال بدلاً من الآثار قريبة المدى، لكنّها تقول أنّ المقياس الذي اتّبعه الباحثون في تقسيم المشاركين إلى مفرطي تعدُّد المهام ومُعتَدِليه هو «عمومي وغامض بشكل زائد عن الحاجة». يُستخدم هذا المقياس؛ والذي يُعرف بـ «جَردة تعدُّد المهام»، بشكلٍ شائع في الأبحاث المشابهة، لكن مختبر وانج يعتقد أنه بحاجة إلى بعض التعديلات.
تقول وانج (بخصوص الدراسة الجديدة): «سيكون لدي فضول بحق لأرى إذا ما كان الباحثون قادرين على البحث في أشكال مختلفة من تعدُّد المهام التي يقوم بها [المشاركون]».
يتألف معظم الأشخاص الذين يمارسون تعدُّد المهام في استخدام وسائل الاتصال من البالغين صغار السن والأطفال، وأدمغة هؤلاء تكون في طور النمو. لا زلنا لا نعلم فعلاً ما هي عواقب تعدُّد المهام، إلا أنّ بعض الأبحاث قد بيّنت تغيُّرات في نمو الدماغ مرتبطة بتعدُّد المهام في هذا السياق، لكن الامتناع عن تعدُّد المهام ليس خياراً متاحاً بالنسبة للبالغين صغار السن؛ وبالأخص هؤلاء الذين يحاولون التعلّم والاختلاط الاجتماعي عن بعد خلال الجائحة. يبيّن مادور أنّ البحث المتعلّق بالورقة الجديدة أُجري قبل الجائحة، لكن مكتشفاته قد تكون ذات أهميّة أكبر الآن؛ إذ أنّ مهاماً مثل الذهاب إلى المدرسة يمكن أن تتضمن استهلاك أشكال متعددة من وسائل الاتصال بنفس الوقت.
يفيد مادور بأنه على من الرغم من أنّ انخفاض القدرة على التركيز وضعف الذاكرة العرضيّة يرتبطان بنتائج دراسية سيئة ومستويات أعلى من الاندفاعية الارتجالية، إلا أنه من الصعب معرفة التبعات بعيدة الأمد على الذاكرة. يقول مادور: «ليس لدينا معلومات محددة حول ما إذا كانت الطرق التي تشتغل فيها ذاكرتنا ستغيّر طريقة عيشنا في هذا العالم المتشابك».
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً