قبل مائة عام، انتشر فيروس جديد لوباء الإنفلونزا بسرعة حول العالم، وأدى إلى مقتل ما يقرب من 1 إلى 2 في المئة من السكان، وكان معظمهم من الشباب والبالغين الأصحاء غالباً.
إن الذكرى المئوية لوباء عام 1918 هو الوقت المناسب لتقييم مدى تقدّم العالم منذ هذه الكارثة الصحية التاريخية، ولمواجهة الحقيقة الواقعية التي تفيد بأن العديد من الألغاز الرئيسية لم تحلّ بعد.
لقد عملنا نحن والعديد من الباحثين حول العالم بجدّ لكشف وتحليل البيانات القديمة الموجودة في المكتبات التي عفا عليها الزمن وسجلات الكنائس والكتب الإحصائية الحيوية المنسية منذ فترة طويلة. وقام فريقنا بأجمعه باستخلاص السجلات من عدد من المدن والبلدان حول العالم، بما فيها الولايات المتحدة والمكسيك وتشيلي واليابان والدنمارك.
وبعد أن نتزود بهذه البيانات، يصبح بإمكاننا إعادة بناء الأوبئة في الماضي. ومن خلال فهم الأنماط الوبائية المرتبطة بجائحة عام 1918 والأوبئة الأخرى، فإننا نأمل أن يتمكن مسؤولو الصحة العامة من الاستعداد بشكل أفضل للكوارث الصحية في المستقبل.
البحث في السجلات
عادةً ما يكون جمع الأدلة من سجلات الوفيات التي تعود إلى قبل قرن من الزمن أمراً شاقاً ومليئاً بالتحديات. فقبل مئة عام، لم يكن يتم حفظ سجلات الوفيات بشكل منظم في العديد من مناطق العالم، وخاصة في الدول منخفضة الدخل.
وبالتالي، يجب علينا في بعض الأحيان أن نبحث بشكل عشوائي عن السجلات في المقابر والسجلات العامة والعسكرية والكنائس، وهي مهمة لا يضمن فيها النجاح.
في أسوأ الحالات، تكون جودة المادة قد تدهورت إلى حد كبير، مما يجعل من المستحيل استخلاص المعلومات الأساسية. وفي عام 1918، كانت شهادات الوفاة تكتب بخط اليد، وكان يتم توثيق عدد قليل من حالات الوفاة من قبل الأطباء. والأكثر من ذلك أن البيانات كانت تختفي تماماً في بعض الأحيان، كما هو الحال في مدغشقر، حيث اكتشفنا بأن البيانات الثمينة حول أوبئة الطفولة قد التهمتها النيران.
كما واجه فريقنا هذا التحدي في بيرو، حيث وصلنا إلى أكثر من 50 ألف سجل وفاة من السجلات العامة. حيث كانت السجلات في العاصمة ليما بحالة جيدة، ولكن التفاصيل المهمة مثل العمر وسبب الوفاة كانت إما مفقودة أو غير مقروءة بالنسبة للغالبية العظمى من السجلات من مواقع أخرى، مثل مدينة إكيتوس في غابات الأمازون.
وفي الغالب لا يُسمح للباحثين بأخذ السجلات التاريخية القيمة من المكتبات. لذا يجب علينا قضاء ساعات طويلة في مسح هذه السجلات القديمة في مكانها ومن ثم تحويلها يدوياً إلى شكل رقمي لجعل المعلومات قابلة للقراءة بواسطة الآلات. وعندما يتم تنظيم البيانات رقمياً، فيمكن عندها فقط أن تتكشف أنماط أوبئة الإنفلونزا السابقة.
الكشف عن الأنماط
لقد شكل وباء عام 1918 المميت بعض الألغاز الوبائية. إذ انتشر الفيروس بطريقة غير عادية. حيث كانت الفاشيات المبكرة معتدلة ومحلية، إذ تم الإبلاغ عنها في عدد قليل من البلدان حول العالم في النصف الأول من عام 1918. وتحولت إلى إصابات خطيرة بشكل استثنائي في وقت لاحق من ذلك العام.
وكانت المنطقة الجغرافية الواحدة تتعرض لموجات متعددة من العدوى خلال فترة زمنية قصيرة. فعلى سبيل المثال، شهدت مدينة كوبنهاغن ثلاث فاشيات مميزة بين شهري يوليو 1918 ومارس 1919، وكذلك موجة رابعة في شتاء عامي 1919 و1920.
وكان نمط الوفيات حسب العمر مثيراً للاهتمام أيضاً. إذ كان الشباب في أواخر العشرينات من عمرهم معرضين لخطر متزايد. وعلى العكس، فقد كانت عدوى الإنفلونزا كثيرة الحدوث بين المراهقين، ولكن هذه الإصابات كانت خفيفة. كما كان كبار البالغين أقل عرضة من البالغين الشباب للوفاة بسبب الإنفلونزا في بعض البلدان وليس جميعها. فعادةً ما يكون كبار السن هم الفئة العمرية الأكثر عرضة لخطر الوفاة بسبب الإنفلونزا الموسمية.
وتوفر البيانات التي قمنا بجمعها فهماً أفضل لتوقيت وعدد الأوبئة قبل عام 1918 وبعده. كما تمكنا من بناء أنماط الوفاة حسب العمر عند مجموعات سكانية مختلفة، خاصة في الأميركيتين وأوروبا.
تظهر هذه الدراسات بأن السكان الذين عانوا من موجة جائحة مبكرة – والتي كانت خفيفة غالباً - في النصف الأول من عام 1918 كانوا أفضل حالاً في موجة الخريف القاتلة. وتم دعم فرضيتنا في النهاية عندما استعاد علماء الفيروسات فيروساً شبيهاً بالجائحة من أنسجة الرئة المحفوظة للجنود الأميركيين الذين ماتوا في صيف عام 1918. وهذا يشير إلى أن العامل المُمْرِض المسؤول عن الموجات المبكرة كان الفيروس الوبائي الجديد.
وتؤكد أعمالنا أيضاً على أن البالغين الشباب كانوا هم الأكثر عرضة للموت. وعلى النقيض من ذلك، فقد كان كبار السن يتمتعون بخطر منخفض للوفاة في المواقع ذات الصلة القوية في الولايات المتحدة، مثل مدينة نيويورك، وكذلك المملكة المتحدة والدانمارك، ولكن ليس في الأماكن النائية مثل المكسيك وكولومبيا وتشيلي.
فلماذا نجا البالغون الأكبر سناً من الموت؟ أحد التفسيرات الشائعة هو أن السكان الذين كانوا على صلة قوية والذين شهدوا الإنفلونزا في القرن التاسع عشر كانت تتم حمايتهم عند عودة فيروس مماثل بعد عقود. وتعرف هذه الفرضية باسم "إعادة إنتاج مولد الضد". واكتسبت هذه الفرضية مزيداً من القوة خلال جائحة 2009، عندما كان لدى السكان الأكبر سناً مستويات أعلى من الأجسام المضادة السابقة، وبالتالي كان احتمال موتهم أقل من السكان الأصغر سناً.
وتشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أنه من المحتمل أن تنتشر أوبئة الإنفلونزا المستقبلية وفق موجاتها الخاصة، اعتماداً على الطقس وعلى الطريقة التي يتعامل بها الأشخاص مع الآخرين. وعلاوة على ذلك، فقد تعتمد أنماط العدوى والوفاة على المناعة السابقة للأشخاص، والتي تم الحصول عليها من انتشار فيروسات مماثلة خلال القرن الماضي.
ألغاز متبقية
يتم حل أجزاء اللغز ببطء، ولكن تظل الأسئلة الرئيسية غامضة.
ربما يكون الغموض الأبرز هو لماذا انتشرت عدوى الإنفلونزا الشديدة بشكل دراماتيكي وغير متناسب بين البالغين الشباب في عام 1918، مقارنة بالأمراض وأوبئة الإنفلونزا الأخرى. كان هذا النمط متسقاً بين الناس من خلفيات جغرافية وديموغرافية واجتماعية اقتصادية مختلفة.
ولا يوجد نقص في الفرضيات التي تحاول شرح ذلك، ولكن لم يكن أي منها حاسماً حتى الآن. وبالنظر إلى ندرة المواد البيولوجية من هذه الفترة التاريخية، فمن المحتمل ألا يعرف العلماء الإجابة لبعض الوقت، وربما ليس قبل أن يتم استيفاء شروط مماثلة في إحدى الجائحات المستقبلية.
ولا تزال هناك فجوات هامة أخرى في فهمنا لوباء عام 1918، خاصة فيما يتعلق بآسيا وأفريقيا، حيث من المرجح أن تكون معظم الوفيات بسبب الجائحة قد حدثت هناك ولكن السجلات شحيحة.
إن جهودنا تعوقها الخسارة التدريجية للمعلومات التاريخية والصعوبات في العثور على المواد التاريخية والوصول إليها. فهذه البيانات تختفي بسرعة.
ولكن هناك أمل. فمع زيادة توافر سجلات المواليد والوفيات التاريخية التي جمعتها بعض الشركات الخاصة التي تركز على قضايا النسب والأنساب على الإنترنت، فإننا نرى مستقبلاً مشرقاً للدراسات التي تماثل دراستنا.
جيراردو شويل هو أستاذ في علم الأوبئة الرياضية بجامعة ولاية جورجيا. سيسيل فايبود هي عالِمة أبحاث بارزة في المعاهد الوطنية للصحة. لون سايمونسن هي أستاذة في جامعة روسكيلدا. تم نشر هذا المقال أولاً على موقع The Conversation.