ليس كل ما يتعلق بألعاب الفيديو سبباً للتسلية والمرح، فقبل إصدار لعبة "ريد ديد ريديمبشن 2"، التي من المتوقع أن يتم إطلاقها في وقت قريب، أخبر أفراد الفريق مجلة فولتشر أنهم كانوا يعملون مئة ساعة أسبوعياً لإنجاز اللعبة التي ينتظرها المعجبون في الوقت المحدد. وقد اعتُبر هذا الادعاء ضرباً من التباهي في البداية، ولكنه سرعان ما ولَّد ردة فعل حادة، وأثار تساؤلاً يميل الناس عادة إلى تجنبه: ما مقدار العمل الذي يمكن أن يقتلك؟
الأميركيون مثلاً يحبون العمل، وعلى الرغم من أن العمل بدوام كامل يحدَّد بمقدار 40 ساعة أسبوعياً، إلا أن الموظف الأميركي العادي يمضي وسطياً 47 ساعة في العمل أسبوعياً، مقارنة مع 35 ساعة في ألمانيا أو السويد. وتعتبر الولايات المتحدة أيضاً حالة نادرة في البلدان الثرية من حيث كونها لا تضمن إجازات مدفوعة. كما أن مَن يعملون في شركات تقدم إجازات مدفوعة لا يأخذونها أيضاً، حيث يقضي 54% من العاملين المجتهدين نصف إجازاتهم في العمل سنوياً.
وتعزز الثقافة الشعبية من هذه النظرة إلى العمل. وعلى سبيل المثال، فإن فيفر (وهي سوق إلكترونية للأعمال الحرة) تطلق إعلانات تشيد بالأشخاص المجدِّين الذين "يفضِّلون تعاطي مخدر خاص" وهو "الحرمان من النوم"، كما يعزز الكثير من المديرين التنفيذيين الخرافة القائلة بأنهم يحتاجون فقط إلى أربع ساعات من النوم حتى يعملوا بأفضل أداء ممكن. وكمثال آخر، فقد أعرب فريق العلاقات العامة في شركة النقل التشاركي ليفت عن "حماستهم" حول قصة امرأة استمرت تعمل في توصيل الركاب وهي تعاني آلام المخاض، معتبرين أنها مثال رائع عن نجاح هذا النموذج في الأعمال.
غير أن هذه الثقافة وهذه البنية الاقتصادية تؤدي إلى عواقب وخيمة على المستوى الجسدي، ففي كتاب صدر مؤخراً بعنوان "Dying for a Paycheck (الموت من أجل الراتب)"، يقول جيفري فايفر (وهو بروفسور سلوك تنظيمي في جامعة ستانفورد) أننا يمكن أن نعزو حوالي 150,000 وفاة في الولايات المتحدة، وحوالي مليون وفاة في الصين، إلى المبالغة في العمل. إن نمط الحياة الذي يتضمن الجلوس لساعات طويلة، والحرمان من النوم، والتوتر -وجميعها ثقافات ضارة حول العمل، وتمثل دواعي قلق اقتصادية- تمثل جميعها جزءاً من المشكلة.
وقد كانت وفيات العمل سابقاً تنتج عن الحوادث، وقبل الحرب العالمية الثانية كان معظم الأميركيين مثلاً يعملون في الخارج أو في المصانع، حيث كانوا يواجهون الأشجار التي تسقط بعد القطع، أو آلات طباعة هائلة الحجم. مما دعاهم إلى تشكيل إدارة السلامة والصحة المهنية (اختصاراً: أوشا OSHA)، التي تقوم بتنظيم هذه الأعمال الخطرة، وقد أبلت حسناً في هذا المجال، حتى أن وفيات العمل -التي تأخذ الصيغة آنفة الذكر على الأقل- قد تناقصت بشكل كبير.
غير أن أجسامنا تتعرض حالياً إلى التدمير بأساليب أقل سرعة وأكثر سرية، وعلى سبيل المثال فقد كنا نعلم منذ زمن أن الضوء الأزرق في شاشات الحواسيب يتسبب في الضرر للعين، ولكن لم تُجرَ أبحاث تفصيلية عن الموضوع إلا مؤخراً، حيث وضَّح الباحثون كيف تحفز بعض الأطوال الموجية تفاعلات كيميائية سامة على سطح كرة العين، وهي تفاعلات قد تؤدي إلى أمراض مثل التنكس البقعي.
وأصبحنا نعرف أيضاً أن الجلوس لفترات طويلة متواصلة يمكن أن يتسبب في إرهاق عضلي وإصابات إجهاد متكرر، ولكن أصبح من الواضح -وبشكل أكثر من ذي قبل- أن نمط الحياة الخالي من الحركة قد يؤدي إلى الموت فعلاً؛ ففي 2017 وجد الباحثون أن الموظف العادي يمضي وسطياً حوالي 12.3 ساعة يومياً دون حركة. أما الأسوأ من هذا -كما أوردت صحيفة ذا جارديان- فهو أن الباحثين قد وجدوا أن "الذين يمضون أكثر من 13 ساعة يومياً دون حركة معرَّضون للوفاة المبكرة بمقدار الضعف أكثر ممَّن يمضون 11 ساعة".
وتعتبر أعراض الحرمان من النوم واضحة بشكل لا يرقى إليه الشك، خصوصاً في الحالات الشديدة، وقد أصبحت اليابان شهيرة في نشرات الأخبار الناطقة بالإنجليزية بسبب ظاهرة تسمى "كاروشي"، وهي تعني الوفاة الفجائية لأناس يتمتعون ظاهرياً بصحة جيدة، وذلك بسبب فترات طويلة ومتواصلة من العمل المجهد. وتعود هذه الظاهرة إلى منتصف الثمانينيات، ولكن الحالات الحديثة تضمَّنت وفاة امرأة بعمر 31 سنة بعد العمل لوقت إضافي يبلغ 159 ساعة خلال شهر واحد.
ولا تقتصر "كاروشي" على اليابان فقط بطبيعة الحال، بل إنها تخيِّم على أي مكان يُجهد الناسُ أنفسهم فيه بالعمل. فمثلاً في العام 2013 في لندن، تُوفي متدرب في بنك أميركا بعد العمل لمدة 72 ساعة متواصلة، كما أوردت التقارير. ويبدو أن طاقم عمل لعبة "ريد ديد ريديمبشن" ما زالوا بصحة جيدة حالياً، ولكن وتيرة العمل التي أعلنوا عنها تعرِّضهم لخطر الكاروشي دون شك. ومن الجدير بالذكر أن التاريخ يشير أيضاً إلى تعرض اللاعبين إلى خطر مماثل، حيث وقعت حالات وفاة بين نخبة من اللاعبين المحترفين بسبب اللعب لأيام أو أسابيع متواصلة.
وكما في حالة الإصابات الجسدية، يمكن للعمل أن يتسبب في أضرار خفيَّة لنظام النوم، بحيث تتراكم المشاكل تدريجياً مثل الرمل في الساعة الرملية. وتبين الدراسات أن نقص النوم أو سوء نوعية النوم قد يؤدي إلى التوتر، وتناقص السيطرة على العواطف، والألم الجسدي، والسلوك المتهور، وهو ما قد يؤدي إلى إفراط في الطعام أو المشروبات. وفي مقابلة أجرتها صحيفة نيويورك تايمز في 2008 مع إيلون ماسك (المدير التنفيذي لشركة تسلا)، بدا ماسك مثالاً واضحاً عن هذه الحالة، وتحدث عن اعتماده على دواء أمبيان للمساعدة على النوم، ويقال إنه بكى في المقابلة أثناء حديثه عن التحديات التي تواجهها شركته في إنتاج السيارات.
ويزيد اختلال النظام اليومي للجسم من شعور الرهبة الذي يرافق سياسات المكتب، والمواعيد النهائية، والمشاريع الهامة. ويحدث الخوف والتوتر أثراً مشابهاً في الجسد، حيث يحفزان الجسم على إطلاق الكورتيزول، وهو هرمون يزيد من معدل نبضات القلب وضغط الدم استعداداً لرد غريزي بالمواجهة أو الفرار. ولكن الخوف يبقى لفترة وجيزة، ويختفي -نظرياً على الأقل- عند اختفاء الخطر، أما التوتر فهو طويل الأمد. وعندما ينتشر الكورتيزول في الأوعية الدموية لفترة طويلة، يمكن أن يثير كل أنواع المشاكل في أعضاء الجسد.
ويبدو أن القلب معرَّض لمشاكل العمل بشكل خاص؛ ففي دراسة نُشرت في 2010 في مجلة European Heart Journal، بيَّن الباحثون أن الموظفين البريطانيين الذين يعملون عشر ساعات على الأقل يومياً معرَّضون لمشاكل القلب أكثر من نظرائهم ممن يعملون سبع ساعات فقط. وقد بقيت هذه النتيجة صحيحة حتى عندما أُخذت بعين الاعتبار سلوكيات ضارة أخرى، مثل التدخين والقلق ونقص النوم، وبقيت المجموعة التي تعاني من ضغط العمل أكثر تعرضاً للنوبات القلبية والوفيات بسبب أمراض القلب. وقد اكتشف باحثون آخرون آثاراً جسدية مشابهة للتوتر. ففي 2016، على سبيل المثال، أورد بعض العلماء أن "الذين يمارسون أعمالاً تتَّسم بارتفاع التوتر دون سيطرة كافية على سير العمل يموتون بعمر أصغر أو يعانون من مشاكل صحية أكثر مقارنة مع من يتمتعون بمرونة واعتدال في العمل".
صحيح أن العمل يؤمِّن وسيلة للعيش، ولكن أصبح من الواضح أن بيئة العمل العصرية قد تؤدي إلى الموت أيضاً. وبمعرفة الأضرار المرافقة للعمل المكتبي، يمكننا أن نفعل ما بوسعنا للتخفيف من آثار هذه الحياة الخالية من النشاط والنوم، سواء كنا نعمل لمئة ساعة أسبوعياً في تصميم لعبة فيديو، أو نمضي مئة ساعة أسبوعياً ونحن نلعب بها. إذن، وحتى لا تتحول إلى مومياء جالسة على المكتب، قِف مكانك، وتمطَّط قليلاً، وأرسل هذه المقالة إلى المسؤول عن عملك عندما تغادر مكتبك اليوم في وقت أبكر بقليل.