هل سبق لك أن تناولت طبق "دموع في العينين"؟ إنه طبق شهير في إقليم سيشوان الصيني، يتكون من معكرونة الأرز الطرية التي يُضاف إليها صلصة حارة مصنوعة من مزيج الفلفل الحار بأنواعه (الطازجة والمُجففة والمُخللة)، والزيت المفلفل، وحبوب الفلفل الأسود السيشواني الشهير. ولعل اسم هذا الطبق يشي بمفعوله، حيث إنه سيجعلك تذرف دموعاً غزيرة في أثناء تناوله، بسبب احتوائه على كمية كبيرة من مادة الكابسايسين (التي تُعطي الفلفل طعمه الحار)، وسوف تشعر بحرارة في لسانك وفمك تجعلك تعتقد بأنك ألحقت ضرراً غير قابل للعلاج بأغشيتهما المخاطية.
مع ذلك، فهو طبقٌ لذيذٌ جداً، وإن هواة المأكولات الحارة يستمتعون به ويُقبلون عليه مهما كان الثمن. ولكن، هل يمكن لذرف كل تلك الدموع أني يكون مفيداً وصحياً؟
على الرغم من أن المأكولات اللذيذة نادراً ما تكون صحية ومفيدة (سقى الله أيام الشوكولا.. فقد ظنناها مفيدةً في فترةٍ ما)، إلا أن الفلفل الحار قد يكون استثناءً لذلك. ففي دراسةً جرى نشرها في وقت مبكر من العام الحالي خلُص الباحثون إلى أن الناس الذين يتناولون الفلفل الحار، كالموجود في طبق "دموع في العينين"، قد تراجع لديهم خطر الوفاة (ضمن فترة إجراء الدراسة).
كثيراً ما تُوصف أغذية مُعينة بأنها خارقة لما يُشاع عن فوائدها الصحية، مثل بذور الشيا، مسحوق الماكا، شاي الإبرة الفضية، توت الغوجي، توت الآساي، وغيرها. فهل يمكن للفلفل الأحمر أن يتفوق على كل تلك الأصناف مجتمعة؟ ربما نعم وربما لا.
يقول المُعد الرئيسي للدراسة الدكتور بينامين ليتنبيرغ، الأستاذ بكلية الطب بجامعة فيرمونت الأمريكية: "لقد كانت هذه الدراسة من بنات أفكار زميلي مصطفى تشوبان، والذي ساعدني في إعدادها."
وكان تشوبان قد اطلع على دراسةٍ سابقةٍ أجريت في الصين، وخلُصت إلى وجود علاقة بين تناول الفلفل الحار وتراجع خطر الوفاة، في الوقت الذي كان فيه هو مُهتماً بدراسة تأثير العملية الالتهابية على الجسم ووظائفه. فمن المعروف بأن الالتهاب هو ردة فعل طبيعية من الجسم تجاه العدوى أو الإصابة، إلا أن حدوث الالتهاب بكثرة أو بشكل غير طبيعي يترافق مع الإصابة بأمراض الأوعية الدموية وأمراض المناعة الذاتية. وكانت دراسات أخرى قد اقترحت بأن الكابسايسين يمارس دوراً مضاداً للالتهاب، وهو ما قد تُعزى إليه نتائج الدراسة الصينية. وقد أراد تشوبان إجراء دراسة مماثلة ضمن المجتمع الأمريكي الذي يختلف بعاداته وطبيعته عن المجتمع الصيني.
يقول ليتنبيرغ: "يتناول الصينيون مأكولاتٍ حارة بشكل يفوق كثيراً ما يتناوله الأمريكيون، كما يختلف الصينيون عن الأمريكيين في العديد من العوامل والصفات، مثل العوامل الوبائية والمَرَضية والجينية والعُمرية. وبالتالي من الصعب اعتماد نتائج الدراسة الصينية على المجتمع الأمريكي. ولذلك قمنا بتكرار الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية وقد توصلنا بالفعل إلى نتائج مماثلة."
من المهم التنويه بأن دراسة ليتنبيرغ هي مجرد دراسة واحدة من دراسات عديدة وجدت فوائد صحية عظيمة للفلفل الأحمر. فقد خلُصت دراسات أخرى إلى أن الفلفل الأحمر يساعد على تخسيس الوزن (عن طريق تحسين التحكم بالإنسولين)، وأن الكابسايسين قد يُوقف نمو سرطان البروستات، ويُعالج مشاكل الأمعاء. فهل يعني ذلك ضرورة الاعتماد بشكل كبير على الفلفل الحار في نظامنا الغذائي اليومي؟
الجواب باختصار، ليس بالضرورة. وإن كان لا يوجد مانع من ذلك. فهذه الدراسة، شأنها شأن العديد من الدراسات الأخرى، هي دراسة وصفية، حيث طلب الباحثون من المشاركين تدوين ما يتناولونه خلال فترة من الزمن، ثم قاموا بتتبع الزمن الذي عاشه المشاركون وما إذا توفي أحد منهم، وكيفية وفاته. يُعد هذا النوع من الدراسات مفيداً في تحري الارتباط بين عوامل مختلفة، إلا أنها لا تساعد على استنتاج علاقة سببية، كأن نقول بأن العامل "س" يؤدي إلى حدوث الأثر "ع".
يقول ليتنبيرغ: "لا نناقش الآن ما إذا كان من الضروري تناول الفلفل الحار أم لا، وإنما نقدم فقط نتائج دراستنا التي خلُصت إلى أن الأشخاص في الولايات المتحدة الأمريكية الذين تناولوا الفلفل الحار في الفترة بين عامي 1988 و1994 قد عاشوا لفترة أطول من الأشخاص الذين لم يتناولوا الفلفل الحار. وإننا لا نعلم في هذه المرحلة تفسيراً لذلك، كما أنه ليس من الضروري أن يكون استهلاك الفلفل الحار هو السبب المباشر لزيادة معدل العمر".
عندما يقول ليتنبيرغ بأنه من غير الضروري أن يكون استهلاك الفلفل الحار هو السبب المباشر لزيادة معدل العمر، فهو يقصد بذلك ما يُعرف في علم الإحصاء بـ "عامل التفنيد". فقد تُفسَّر تلك العلاقة بطرق مختلفة، كأن تكون جينات هؤلاء الأشخاص مسؤولة عن جعلهم يُحبون الفلفل الحار، وأن تلك الجينات هي التي تقيهم من الإصابة بأمراض محددة مما يزيد من معدل أعمارهم الوسطي. وقد تُفسر أيضاً بصورة معاكسة، حيث أن تَعرُّض الإنسان لمرض خطير قد يُفقده الرغبة بتناول الفلفل الحار، وأن ذلك ما يُفسر وفاة عدد أكبر من الأشخاص الذين لا يفضلون تناول الفلفل الحار. أو أن استهلاك الفلفل الحار يُشجع سلوكيات أخرى، مثل تناول الكثير من الماء، وهو ما يؤدي إلى تعزيز الصحة بشكل عام. وخلاصة القول، ليس من الضروري أن يكون استهلاك الفلفل الحار هو السبب المباشر لزيادة معدل العمر.
يقول ليتنبيرغ: " من الصعب جداً في الدراسات الغذائية الوصول إلى دليل قاطع، وذلك لأن معظم التدابير والتداخلات الغذائية تستغرق سنواتٍ كي تظهر نتائجها. وفي نموذجنا الحالي، ينبغي تجنيد عدد كبير من المشاركين وتوزيعهم عشوائياً في مجموعتين، والطلب من أفراد المجموعة الأولى اتباع نظام غذائي يحتوي على الكثير من الفلفل الحار، والطلب من أفراد المجموعة الثانية اتباع نظام غذائي خالٍ من الفلفل الحار، ومراقبتهم لسنوات طويلة، ثم إحصاء الوفيات بينهم. ولكن إجراء مثل هذه الدراسة قد يكون شاقاً للغاية، لصعوبة العثور على متطوعين يوافقون على الاشتراك بها".
ويُضيف ليتنبيرغ: "على الرغم مما توصلت إليه دراستنا والعديد من الدراسات التي سبقتها، فلا زلت غير مقتنعٍ على المستوى الشخصي بضرورة تناول الفلفل الحار بكميات كبيرة، خاصةً أنني لا أحبه".
لقد أظهرت الدراسة تراجعاً في أعداد الوفيات بين مستهلكي الفلفل الحار الناجمة عن النوبات القلبية والسكتات الدماغية، ولكن الباحثين لم يتتبعوا الوفيات الأخرى الناجمة عن السرطان مثلاً، ما يعني بأنهم لم يتتبعوا عوامل معيشية مثل الوضع الاقتصادي أو توفر الخدمات الصحية. وهذا يعني بأن الارتباط بين تناول الفلفل الحار وتراجع خطر الوفاة يحتاج إلى مزيد من الدراسات لتأكيده، وقد لا يكون حقيقياً.
أضف إلى ذلك أنه من غير الصائب القول بأن جميع الدراسات التي تناولت استهلاك الفلفل الحار قد كانت وصفية. ومثالها دراسة حديثة تناولت تأثير الكابسايسين على الأمعاء، وأجريت على خلايا وحيوانات مخبرية (وهي إحدى جوانب القصور في الدراسة، لأن الدراسات على الحيوانات قد لا تنطبق نتائجها على الإنسان)، ولكنها لم تكن حاسمة في نتائجها. ومثالها أيضاً دراسةُ تناولت تخسيس الوزن وزّع فيها الباحثون المشاركين ضمن مجموعتين، مجموعة تستهلك الفلفل الحار ومجموعة لا تستهلكه، ولكنها استمرت لفترة قصيرة نسبياً (حوالي 12 أسبوعاً).
إن الخواص الطبية للكابسايسين، أو على الأقل بدائله الصناعية، معروفة، إذ إنه يدخل في تركيب العديد من المراهم المسكنة للألم والتي تُباع بدون وصفة طبية.
إن كل ذلك يقودنا إلى نتيجة هامة، وهي أن جميع تلك الدراسات كانت تحاول البحث عن المزيد من الخصائص العلاجية للفلفل. فإذا أثبتت الدراسات، على سبيل المثال، بأن تناول الفلفل الحار قد يُقلل من خطر النوبات القلبية أو السكتات الدماغية، فسوف يبدأ الباحثون بتحليل مكونات الفلفل بتأنٍّ ومحاولة معرفة المادة الفعالة التي تترك الأثر الإيجابي، ومن ثم محاولة تصنيعها واستخدامها كدواء يؤخذ لنفس الغرض. وهكذا، وعلى الرغم من أهمية تلك الدراسات، إلا أنها قد لا تؤثر في الوقت الراهن على تفضيلاتنا الغذائية، وما إذا كان من الأفضل أن نضيف الفلفل الحار إلى وجباتنا أم لا.
ولكن، خلافاً للعديد من الأصناف الغذائية التي يلمع نجمها في نشرات الأخبار بعد إجراء دراسات وصفية محدودة عليها، فإن الفلفل الحار مُفيدٌ لصحتنا حقاً، بغض النظر عما إذا كان طعاماً خارقاً أو لا. فعلى العكس من الشوكولا (التي تحتوي على كمية كبيرة من السكر والدهون والسعرات الحرارية) فإن استهلاك الفلفل هو وسيلة ممتازة للحصول على حصص الفواكه والخضار المنصوح بها يومياً (والتي تتراوح بين 5-9 حصص). كما أن الفلفل فقير بالسعرات الحرارية وغني بالألياف والفيتامين "سي" والكارتنويدات. أي بعبارةٍ أخرى، لسنا بحاجةٍ إلى المزيد من الأبحاث لكي نقتنع بأن الفلفل هو طعام صحي. فإذا كُنت تُحب الفلفل الحار، فعليك به.. وبالهناء والشفاء.
ولكن، إذا لم يكن الفلفل الحار طعاماً خارقاً أو سحرياً، فما هو إذن؟
يجيب ليتنبيرغ عن ذلك، فيقول: "إن الطعام الخارق الوحيد الذي أعرفه حتى الآن هو الجوع. فكلما ازدادت قدرتك على الصيام والامتناع عن تناول الطعام كلما تمكنت من العيش لفترةٍ أطول، سواءً كان ذلك ضمن خطة قصيرة الأمد أو خطة طويلة الأمد. أما الفلفل الحار، فأنا شخصياً لا أحبه".