إن هذه المقالة مأخوذة من كتاب النكهة: مدخل إلى علم الحاسة التي نستخف بها كثيراً لمؤلفه بوب هولمز، بناءً على إذن من الناشر "نورتن وشركاه".
تتمتع أنوفنا بقدرة فريدة على تحسس الروائح أكثر مما يعتقد الكثير من الناس، حتى إنها كثيراً ما تتفوق على أعقد التجهيزات المخبرية وأبهظها ثمناً!
في بدايات عام 2000، رأى المارّون بحرم جامعة كاليفورنيا الأمريكية مشهداً غريباً: طالبٌ معصوب العينين، يضع سدادات أذنين، ويرتدي معطفاً خاصاً وواقياتٍ للركبتين وكفوفاً ثخينة، يزحف بخط متعرج جيئة وذهاباً على امتداد الحديقة وأنفه ملاصق للأرض!
لعل أول ما يتبادر إلى ذهن من يشاهد هذا الطالب هو التساؤل عما يمكن أن يفعله! هل يقوم بدحرجة حبة فول سوداني بأنفه على امتداد حرم الجامعة كعقوبة لمخالفة سلوكية ارتكبها؟ أم إنه يمارس لعبة ما مع زملائه في الجامعة؟ والحقيقة هي أنه كان يتتبع رائحة خيط منقوع بالشوكولا، ويقوم بتلك المهمة على أكمل وجه!
ذي كان يعمل في ذلك الوقت أستاذاً في جامعة كاليفورنيا، ويعمل الآن لصالح معهد وايزمان للعلوم. حيث طلب سوبل من 32 طالبٍ متطوعٍ أن يتتبعوا بأنوفهم رائحة خيط مدهون بالشوكولا. فوجد بأن 20 متطوعاً منهم نجحوا في تعقب الخيط بحاسة الشم وحدها، دون أي مساعدة من الحواس الأخرى. وعندما منح سوبل الفرصة لأربعة من المتطوعين لتكرار التجربة، أظهروا جميعاً قدرةً أفضل على تتبع المسار، والتحرك بسرعة أكبر ودقة أعلى. وعندما حاول المتطوعون تكرار التجربة مع سد أنوفهم، فشلوا جميعاً في تتبع مسار خيط الشوكولا، ما يعني بأن نجاحهم في تعقب الخيط في المرة الأولى كان بفضل حاسة الشم وحدها.
لا يقتصر الأمر على أن حاسة الشم لدينا أقوى مما نتصور، ولكنها تتمتع بقوة تصلح للمقارنة مع حاسة الشم لدى الحيوانات المعروفة بقدرتها الكبيرة على تعقب الروائح. دأب ماتياس لاسكا، اختصاصي علم النفس بجامعة لينشوبينغ السويدية، على قياس حدة الشم في أنوف الحيوانات لعقود طويلة، وذلك قبل زمنٍ طويل من إجراء سوبل لتجربة تعقب الشوكولا. معتمداً في ذلك على قياس عتبة الشم، المعيار الذهبي لتقييم حاسة الشم عند كائنٍ ما. وتعني عتبة الشم مقدار أقل تركيز من مادة عطرية معينة يمكن للأنف شمه. وبما أنه لا يمكننا سؤال الحيوانات ما إذا كانت تشم رائحة معينة أو لا، فقد قام لاسكا بخطوة ذكية، وهي تدريب الحيوانات على الربط بين رائحة معينة ومكافأة غذائية لذيذة، كأن يُقدم جزراً للفيلة وفولاً سودانياً للقرود. ثم ترك لاسكا الحيوانات تختار بين صندوقين، أحدهما فارغ وغير مُعطر، والثاني معطر بالرائحة المميزة ويحتوي على الجائزة الطعامية. فإذا أقبلت الحيوانات على اختيار الصندوق الثاني بدون تردد فذلك يعني بأنها تمكنت من شم الرائحة المميزة. ثم كرر لاسكا التجربة عدة مرات، كان يقوم كل مرة بتقليل تركيز المادة العطرية، إلى أن يصل إلى نقطة لا تستطيع الحيوانات فيها تمييز الصندوق الحاوي على الجائزة الطعامية، وعندها يعلم بأن تركيز المادة العطرية المستخدم أقل من عتبة الشم عند هذا الحيوان.
استخدم لاسكا هذه الطريقة على مدى عدة سنوات على الكثير من الحيوانات التي صادفها، مثل الخفافيش والفئران والفيلة والقرود. كما قارن نتائجه مع نتائج دراسات أخرى على البشر، ولاحظ بأن حاسة الشم لدى الحيوانات ليست بالضرورة أفضل من نظيرتها عند البشر. ولشدة شغفه بهذا الحقل من العلوم، قام لاسكا بتقصي جميع الدراسات التي أجريت لقياس عتبة الشم عند الحيوانات، ثم قارن نتائجها مع عتبة الشم عند الإنسان.
أظهرت النتائج بأن مقارناته الأولية كانت موفقة إلى حد بعيد. حيث وجد بأن أنوف البشر أكثر حساسية من أنوف الجرذان في استنشاق 31 مادة كيميائية من أصل 41 مادة جرت تجربتها على كلا الكائنين. كما وجد لاسكا بأن أنوف البشر تتفوق على أنوف الكلاب في استنشاق 5 روائح من أصل 15 جرت تجربتها على كلا الكائنين. يقول لاسكا: "أعتقد بأن النظرية الشائعة جداً، والقائلة بأن البشر يمتلكون حاسة شم غير متطورة بدرجة كبيرة، ليست أكيدة. إن حاسة الشم لدينا ليست على تلك الدرجة من السوء".
ولكن، طالما أن الأمر كذلك، لماذا يستخدم موظفو الجمارك الكلاب البوليسية للتحري عن المخدرات؟ ولماذا تنجح الكلاب في تقفي أثر أصحابها في حين أن البشر لا ينجحون في تقفي أثر كلابهم الضائعة؟ لعل الإجابة تكمن جزئياً في أن البشر اعتمدوا لفترة طويلة على حاستي الرؤية والسمع بشكل أكبر من حاسة الشم. يقول لاسكا: "باستثناء الباحثين المولعين بدراسة شم الروائح مثلي، فإن البشر لا يركزون دائماً على المنبهات الشمية في الوسط المحيط". فعلى سبيل المثال، يُعد التركيز على رائحة معينة أكثر صعوبة من التركيز على رؤية مشهد معين أو سماع صوت محدد. فإذا كنت تبحث عن وجه صديق لك في حشد من الناس، أو تبحث عن كتاب محدد وسط العديد من الكتب على رفوف المكتبة، فسوف تركز بصرك على مساحة محددة. وكذلك الأمر إذا كنت تحاول الاستماع إلى حديث شخص ما في صخب احتفال كبير، حيث إنك ستدير وجهك باتجاه المتكلم وتركز على مصدر الصوت من جهة واحدة. إن هذه القدرة على التركيز المكاني تساعدنا في العثور على ما نبحث عنه بصرياً أو سمعياً.
في المقابل، فإننا نعجز عن التركيز الشمي بنفس الطريقة. يمكننا بالطبع أن نلصق أنوفنا بقطعة قماش لتحري رائحتها، أو نقرب أنوفنا من طعام محدد لمعرفة ما إذا كان العفن قد أصابه أم لا، ولكن ذلك لا يحدث بشكل مستمر، حيث أن أنوفنا لا تركز على رائحة معينة طيلة اليوم، بل تستنشق مزيجاً من الروائح غير المميزة الموجودة حولنا، وبالتالي فإن عتبة الشم لدينا تكون مشابهة لنطاق الرؤية المحيطية في العين عندما لا نركز على شيء معين في الوسط. وحتى إن حاولنا التركيز على رائحة محددة، كأن نحاول معرفة ما هي العشبة المستخدمة في تحضير صلصة معينة، فإن الدراسات أظهرت بأننا غير قادرين على تقديم أداء أفضل لاكتشاف ماهية الرائحة.