إذا عرضت على المريض صورة لأي دائرتين قريبتين فوق بعضهما البعض، فإنه يراهما كدائرتين، ولكن إذا كانتا قريبتين للغاية من بعضهما وكأنها رقم 8، فإن ما يراه هي مجرد خطوط عشوائية مثل «السباغيتي».
طوّر المريض ما يُسمى متلازمة «التنكس القشري القاعدي» عام 2010 وهو في عمر 60 عاماً، وهي حالة تنكسية تدريجية نادرة تؤثر على أقل من واحد من بين كل 100 ألف شخص كلّ عام. تقوم هذه الحالة بتعطيل عمل أجزاء محددة من القشرة والعُقد القاعدية في الدماغ. بعد عام من معاناة المريض «آر إف إس» من الصداع، وحدوث تقطّع في الرؤية، بدأ المريض يعاني من تشنجاتٍ عضلية وصعوبةٍ في المشي. والأمر الغريب، هو عدم قدرته على تمييز الأرقام. أطلق الخبراء على اضطراب معرفة الأرقام لديه اسم «تحوّر الشكل الرقمي»، ويأملون في أن تقود حالته إلى فهمٍ أفضل للإدراك البشري.
تقول «تيريزا شوبرت»، عالمة علم النفس العصبي في جامعة هارفارد، وأحد المؤلفين الرئيسيين للبحث الجديد الذي نُشر في دورية «بانس»، والذي يوثق حالة المريض «آر إف إس»: «يرى المريض الرقم بشكلٍ طبيعي، لكنه لا يستطيع التعرف عليه، فهو يرى كلّ رقمٍ كشبكة من الخطوط المتشابكة التي تبدو مثل السباغيتي كما يصفها المريض نفسه. كما قال الباحثون أن المريض لم يجد الكلمات المناسبة أيضاً لوصف الرقم 8 الذي أُعطي له على شكلِ مجسّم كي يتحسسه بيديه».
ليس إدراك الأرقم مشوّه لديه فحسب، بل إن هذا التشوه يتغير بشكلٍ عشوائي في كل مرة. فقد تبدو خيوط السباغيتي التي يراها المريض مختلفة في كل مرة يحاول التعرف فيها على الرقم 8.
تقول شوبرت: «تحدث الفوضى في كل مرة. وهذا يستبعد إمكانية تعليمه أنّ هذا «السباغيتي» يعود للرقم 4، أو أن ذاك يعود للرقم 8. اكتشفنا أيضاً أنه إذا كانت الأشكال الأخرى قريبة من شكل رقمٍ ما، فإن دماغه يشوهها أيضاً، لن يرى سوى خيوطٍ متشابكة من السباغيتي».
ففي حالة الدائرتين التين تقتربان من بعضهما البعض شيئاً فشيئاً حتّى تبدوان كرقم 8، يحدث تشوّه الإدراك لدى المريض بمجرّد أن يبدأ دماغه في تصنيف ما يراه على أنه رقم.
ولكن المريض «آر إف إس» لايرى كلّ الأرقام بنفس الدرجة من التشوّه. فهو يُدرك الأرقام الرومانية التي تُكتب على شكل حروف بشكلٍ طبيعي. يبدو أن حالته تشوّه الأرقام الشائعة فقط، ومع ذلك، هناك بعض التناقض، حيث يمكنه التعرّف إلى رقمي 0 و 1 بسهولة، بينما لا يمكنه التعرف على الأرقام من 2 إلى 9.
ماذا يحصل إذا؟ لدى شوبرت وفريقها بعض الفرضيات. تقول: «قد يكون لرقمي 0 و 1 شكلان بسيطان للغاية مع تفسيراتٍ متعددة. حيث يمكن أن يكون الصفر أيضاً الحرف «O»، بينما قد يمثل الرقم 1 حرف «I» أو مجرّد خط عمودي».
ويفترض الفريق أيضاً أنه من الممكن أن يكون رقمي 0 و 1 لم يتشوّها في إدراك المريض لأنهما يلعبان دوراً فريداً في كيفية إدراكنا للأرقام والقيم. تقول شوبرت: «الصفر كمفهوم لم يُخترع إلا بعد سنواتٍ عديدة من الوقت الذي بدأ فيه الناس استخدام الأرقام. لذلك عندما نفكّر في أشياءٍ عديمة القيمة، أو قيم مختلفة للكميات، فإنّ لرقمي 0 و 1 دور خاصّ في تمثيل الكميات. ربما سمح دروهما الخاص بحمايتهما وحفظهما بينما تضررت بقية الأرقام من 2 إلى 9.
ولكن لماذا الأرقام؟ تقول شوبرت أن الأمر ربما يكون عشوائياً: «يمكن أن يكون الأمر ببساطة مثل الحروف. هناك مناطق متخصصة في الدماغ تعالج الأشياء التي ينبغي على الناس التعامل معها بانتظام، مثل الوجوه والأرقام والحروف وما إلى ذلك، هذه المناطق كلها مرشحة لمثل هذه الحالة، حيث يمكن أن تتشوه فئة بأكملها في حال تضرر المنطقة المسؤولة عنها».
أراد الفريق أيضاً معرفة ما إذا كان بإمكان المريض معرفة صورٍ موضوعة ضمن الأرقام. فعرضوا عليه صورة كبيرة لرقم، مع كلمة أو صورة لوجه في مكان ما داخل الرقم. ثم سألوه عما يراه، وذلك أثناء مراقبة نشاطه الدماغي الكهربائي على جهاز التخطيط الكهربائي. لم يكن لدى المريض أي فكرةٍ عما ينظر إليه، لقد كان كل شيءٍ بالنسبة له شبكة من خيوط السباغيتي. لكن جهاز التخطيط الكهربائي كشف أن دماغه يدرك وجود كلمةٍ أو وجهٍ حتى ولو لم يكن المريض يدرك ذلك.
تقول شوبرت: «هذه حالة فريدة حقاً تغيّر نظرتنا حول الطريقة التي نعتقد أننا نرى من خلالها الأشياء. فنحن نعتقد أن الصورة تأتي من خلال أعيننا ثم يقوم الدماغ بمعالجتها، ثم ندرك فحواها. لكّن ما تُظهره هذه الحالة أن بإمكان دماغنا إدراك الأشياء وقراءة الوجوه والأرقام دون وعي منا بالفعل. لذلك ربما تكون هناك مراحل عديدة للإدراك والوعي بشيءٍ ما أكثر مما كنا نعتقد سابقاً».
تقول شوبرت: «يشتبه العلماء في أن الدماغ قادر على تحديد شيء ما دون تدخل الوعي لبعض الوقت، ولكن من الصعب إثبات ذلك تجريبياً». في الواقع، تدعم حالة المريض «آر إف إس» هذه الفكرة بشكلٍ قوي، وسيكون لها تأثير ضخم على البحوث المتعلقة بالإدراك. لذلك يجب أن تتوافق أي نظرياتٍ مستقبلية عن الإدراك مع حالة مريض «آر إف إس» كطبقةٍ إضافية من التوصيف والمعايير.
يحتاج روتين مريض «آر إف إس» اليوم إلى بعض التعديل على الأقل حتى تتحسّن حالته. الأرقام موجودة في كل مكان في الحياة الحديثة، في الساعات والكتب ووصفات الطبخ والأسعار وغير ذلك. ولمساعدة مريض «آر إف إس» على التكيف مع مشكلته الرقمية، ابتكر «مايكا مكلوسي» -مؤلف مشارك في الورقة البحثية- مجموعة جديدة من الرموز لتمثيل الأرقام. تعلّم المريض تلك الرموز بسرعة وأصبح يستخدمها منذ 9 سنوات وحتّى الآن. كما استعانت شوبرت وفريقها بطالب هندسة لمساعدتها بابتكار تطبيقٍ جديد للآلة الحاسبة يحوي رموز الأرقام الجديدة، وبرنامج على الكمبيوتر يقوم بتحويل الأرقام على صفحات الإنترنت إلى رموزٍ أيضاً. طبعاً ما تزال هناك بعض المشاكل. لا يزال المريض «آر إف إس» لا يستطيع معالجة الأرقام في المستندات الجامدة مثل ملفّات «بي دي إف»، أو الكتب الرقمية، وحتّى مؤشرات أرقام السرعة ومستوى الوقود وغيرها من المؤشرات في السيارة.
لنكن واضحين، ما يزال إدراك المريض «آر إف إس» للأرقام ومفاهيم الرياضيات سليماً كلياً، فقبل بضع سنوات، كان لا يزال يعمل كجيولوجيّ هندسي، ولا تزال قدراته الحسابية العقلية ممتازة. وعلى الرغم من أن المريض لن يدرك الكثير من الأرقام حوله، لكن يمكنه العيش بشكلٍ طبيعي.