لا يزال الطاعون نشطاً وموجوداً في العالم الحديث. إذا كان هذا الأمر مفاجئاً لك، فعلى الأرجح أنك لا تعيش في إحدى المناطق القليلة التي لا تزال تؤوي البكتيريا المسببة له. حيث أنها لا تتواجد إلا في عدد قليل من البلدان بما فيها الولايات المتحدة، ولكن لا تزال هناك فاشيات واسعة النطاق في بعض هذه المناطق، والتي تصيب أكثر من ألف شخص في بعض الحالات.
ولأننا نعتقد بأنك لا تعرف شيئاً عن هذا الأمر تقريباً، فإليك بعض الحقائق الأخرى عن مرض الطاعون الذي ربما لا تعلم بأنه ما يزال موجوداً:
معظم حالات الطاعون في الولايات المتحدة تحدث في الجزء الغربي منا
يتعرّض ما يتراوح بين 1 إلى 17 شخصاً أمريكياً للإصابة بالطاعون كل عام، ويعاني معظمهم من النمط الدبلي من الطاعون، وفيه تتعرض العقدة اللمفاوية للتورم والتموّت بشكل فظيع. وعند تطوّر الطاعون الدبلي، فإنه يمكن أن يتحوّل إلى نمط آخر يسمى بالطاعون الرئوي، حيث تحدث العدوى في الرئة مما يسبب ألماً في الصدر وضيقاً في التنفس ومخاطاً دموياً. ويمكن أن ينتقل الطاعون الرئوي من شخص إلى آخر، بسبب خروج بعض المخاط الملوّث عن طريق السعال. فيما عدا ذلك، يجب أن يتعرض الشخص للدغات البراغيث التي تحمل بكتيريا اليرسينيا الطاعونية.
ويعاني أكثر من 80 بالمئة من مرضى الطاعون في الولايات المتحدة من الطاعون الدبلي، لأنهم يُعالجون بالمضادات الحيوية قبل أن تتطور حالتهم.
ولكن، كيف لحالات الطاعون أن تظلّ موجودة في الولايات المتحدة؟ إن بعض المجموعات الريفية من الجرذان تحمل البكتيريا، وهناك الكثير جداً منها بحيث يتعذّر القبض عليها وقتلها جميعاً. ويبدو أن المناطق الشمالية من ولايتي نيو مكسيكو وأريزونا والمناطق الجنوبية من ولاية كولورادو تحتوي على مجموعة كبيرة من الجرذان التي تؤوي معظم بكتيريا اليرسينيا الطاعونية الموجودة في البلاد، على الرغم من وجود حالات في جميع أنحاء ولايات كاليفورنيا وأوريجون وواشنطن ويوتا، وفي أجزاء من ولايات نيفادا وايداهو ومونتانا ووايومنغ.
إن آخر وباء بالطاعون في المناطق الحضرية في الولايات المتحدة كان في لوس أنجلوس
في 30 أكتوبر 1924، تعرّض جيسوس لويان البالغ من العمر 51 عاماً للمرض. وقبل ذلك بأيام ربما، كان قد التقط فأراً ميتاً من تحت منزله ورماه بعيداً. وأصبح أول مريض يصاب بالطاعون الرئوي خلال إحدى الفاشيات في لوس أنجلوس والتي انتشرت لتؤدي إلى إصابة 30 شخصاً على مدار أسبوعين، وكان معظمهم في حي واحد بالقرب من شارع أولفيرا. واضطرت السلطات إلى فرض حجْر صحي على الأحياء المصابة لمنع انتشار الطاعون، وقد ذكرت جميع الصحف في لوس أنجلوس بأن المرض لم يكن سوى شكلاً شديداً من التهاب الرئة، ولم تذكر أيّ منها بأنه طاعون لحين انتهاء تفشي الوباء.
وكانت هذه الفاشية من النوع الذي يمكن أن يقتل أعداداً كبيرة من الناس. إذ أدى طاعون الموت الأسود إلى مقتل 60 بالمئة من سكان أوروبا في القرن الرابع عشر. وتمكن مسؤولو الصحة من احتواء الوباء في كاليفورنيا من خلال الحجر الصحي بشكل جزئي، ولكن بشكل رئيسي من خلال تنفيذ برنامج للقضاء الشامل على القوارض. إذ تم توظيف "قوة من الرجال" الذين قاموا بمحاصرة الجرذان وتسميمها، ومن ثم جعلوا المباني حصينة على الجرذان وطهّروا المنازل بالرذاذ النفطي. كما قاموا بوضع علامات على جميع الجرذان والفئران والسناجب حسب موقعها والقضاء على جميع السناجب البرية في كافة أنحاء المدينة. وتم العثور على بعض الحيوانات المصابة في وسط مدينتي لوس أنجلوس وبيفرلي هيلز. حتى أنهم أغلقوا المرفأ لفترة من الوقت لأنهم وجدوا جرذاً مصاباً هناك.
لا يزال الطاعون مستوطناً في مدغشقر
تحدث معظم حالات الطاعون في العالم في جزيرة مدغشقر. إذ يعاني البلد من الفاشيات بانتظام، وقد امتدت آخرها من أغسطس إلى نوفمبر من عام 2017 وأصابت 2348 شخصاً، مما أسفر عن مقتل 202 أشخاص. وكانت هذه الفاشية غير عادية لأنها وصلت إلى العاصمة أنتاناناريفو وغيرها من المراكز الحضرية، مما سمح لها بالانتشار بشكل أسرع لتصل إلى المزيد من الناس. فعادةً ما تصاب البلاد بموجات صغيرة من الطاعون في المناطق الريفية خلال موسم الأمطار. لكن بسبب سفر رجل يبلغ من العمر 31 عاماً أثناء إصابته بالمرض، فقد تمكن من الاحتكاك بعشرات من الأشخاص ونقل العدوى إلى 31 شخصاً في النهاية. وذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز بأنه ربما كان يعتقد أنه مصاب بالملاريا والتي تُظهر العديد من الأعراض المشابهة ولا يمكن أن تنتقل إلا عن طريق لدغة البعوض، وبالتالي لم يتخذ أي احتياطات لمنع انتقال العدوى إلى الأشخاص الآخرين.
كادت البكتيريا المسببة للطاعون أن تستخدم كسلاح خلال الحرب الباردة
بحثت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق استخدام بكتيريا اليرسينيا الطاعونية كسلاح خلال الحرب الباردة، ولكن لم يتمكن سوى الاتحاد السوفييتي من التقدّم بما يكفي في أبحاثه لدراسة إحدى الطرق المروّعة، وهي رش البكتيريا كجزيئات صغيرة في الهواء، وبالتالي يمكن نشر المرض في مدينة بأكملها. وأشارت إحدى التقديرات إلى أن إطلاق 50 كيلوغراماً من بكتيريا اليرسينيا الطاعونية على مدينة يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة، من المرجح أن يؤدي إلى إصابة 150 ألف ومقتل 36 ألف شخص. إلا أن ذلك سيكون في المدينة فقط، ومن المحتمل أن ينتشر المرض أبعد من ذلك، لأنه من المرجح أن يحاول المواطنون الهروب منه.
لم تتمكن الولايات المتحدة أبداً من إنتاج ما يكفي من البكتيريا لجعلها صالحة للاستخدام كسلاح، ولكن هناك خطة حتى يومنا هذا في حال قام أحد باستخدام بكتيريا اليرسينيا الطاعونية كسلاح بيولوجي إرهابي.
البكتيريا الطاعونية سيئة في البقاء على قيد الحياة
على الرغم من انتشارها على نطاق واسع عبر قرون من الحضارة الإنسانية، إلا أنه لا يمكن لبكتيريا اليرسينيا الطاعونية البقاء على قيد الحياة خارج جسم المضيف لأكثر من ساعة تقريباً. فهي متوسطة الحساسية لأشعة الشمس، على الرغم من أنها مقاوِمة لمختلف درجات الحرارة، ولذلك فإن معظم البكتيريا سوف تموت عند بقائها في العناصر لفترة طويلة جداً. إن نجاحها كعامل مُمرض يكاد يعود بالكامل إلى مدى نجاحها في البقاء على قيد الحياة داخل البراغيث، وبدوره إلى مدى نجاح البراغيث في البقاء على قيد الحياة عند القوارض.
وهذا هو سبب وجود الكثير من أشكال الطاعون الحديث المتبقي. فمنذ ستينيات القرن التاسع عشر، كانت هناك أوبئة كبيرة في الصين والتي انتقلت إلى هونغ كونغ بحلول عام 1894. ومن هناك، انتقلت على متن السفن إلى مدن الموانئ في جميع أنحاء العالم. وهكذا انتهى الأمر في غرب الولايات المتحدة في المدن الساحلية. لقد كنا سريعين في القضاء على المرض في المناطق الحضرية، ولكن كان من الصعب احتواء القوارض. وبين الفئران والسناجب، انتشر الطاعون في المناطق الريفية، حيث تمكّن من البقاء لأكثر من قرن من الزمان.
مالم يتم القضاء الشامل على جميع الثدييات الصغيرة في الولايات المتحدة، فمن المحتمل أن يظلّ الطاعون موجوداً إلى الأبد. لكن احتمالات الوقاية منه أصبحت جيدة جداً.