هل سمعت سابقاً بالتحدي المُسمى غراند سلام (Grand Slam) لتسلق القمم السبع؟ هو تحدٍ ينطوي على تسلق أعلى قمة في كل قارة من قارات العالم والتزلج إلى القطبين الشمالي والجنوبي. هل تعلم أنه من بين جميع سكان العالم، لم يكمل هذا التحدي سوى 73 شخصاً، منهم 17 امرأة، ومن بين هؤلاء النساء كانت "تيما ديريان" أول امرأة عربية من لبنان، تتسلق أعلى سبعة جبال في العالم، وتتزلج إلى القطب الجنوبي، وتوشك أن تنهي التحدي في أبريل/ نيسان من عام 2023 بالتزلج إلى القطب الشمالي.
ويا لها من تجربة مجزية، أن تنظر إلى العالم من الأعلى سبع مرات. ولكن، لنضع الأمور في نصابها، ليس تسلق القمم الشاهقة أمراً بهذه البساطة، إذ وبالإضافة إلى جهد ومشقة التسلق، فإن الارتفاع الشاهق نفسه يسبب تغيرات فيزيولوجية في جسم الإنسان، وقد يسبب حدوث حالات صحية خطيرة، بل وقد يكون مميتاً.
وإليك ما يحدث لجسمك عند تسلق الارتفاعات الشاهقة.
لماذا تؤثر الارتفاعات العالية على الإنسان فيزيولوجياً؟
إن شئت القول بأن تسلق الجبال الشاهقة نشاط "يحبس الأنفاس"، فقد يكون ذلك صحيحاً كتعبير مجازي فقط، لكنه في الواقع نشاط يسرّع الأنفاس. لماذا؟ لأنه وكلما زاد الارتفاع عن سطح البحر، انخفض الضغط الجوي، وكلما كان الجبل أكثر ارتفاعاً، كان ضغط الهواء الموجود عنده أقل. يحدث هذا لسببين؛ الأول: أن جاذبية الكرة الأرضية تسحب الهواء بالقرب من السطح قدر الإمكان، والثاني: أن كمية جزيئات الغاز في الهواء تقل كلما زاد الارتفاع، أي يصبح الهواء عند المرتفعات أقل كثافة من الهواء الموجود عند سطح البحر. لذلك، يطلق علماء الأرصاد الجوية على الهواء قليل الكثافة الموجود عند المرتفعات اسم "الهواء الخفيف" (Thin air).
ماذا يحدث لجسم الإنسان عند الارتفاعات الشاهقة؟
لكن ما علاقة كل ذلك بالتنفس؟ بالنسبة لجسم الإنسان، فإن انخفاض ضغط الهواء يعني نقص الأوكسجين المتاح للتنفس نتيجة انخفاض تركيزه. وبما أن جسم الإنسان معتاد على كمية معينة من الأوكسجين عند مستوى سطح البحر أو في المناطق قليلة الارتفاع، فماذا سيحدث له عندما يحصل فجأة على كمية أقل من الأوكسجين؟
اقرأ أيضاً: ما التمارين الرياضية التي تؤثّر على الطول؟
نقص الأكسجة
مع صعود الشخص إلى المرتفعات العالية (المرتفعات العالية هي التي يزيد ارتفاعها على 2500 متر عن سطح البحر) ينخفض الضغط الجوي وينخفض معه الضغط الجزئي للأوكسجين في الهواء المستنشق، فيقل تشبع الدم بالأوكسجين، بكلمات أُخرى يحدث ما يسمى نقص الأكسجة في الدم (Hypoxemia)، وهو ما يؤدي إلى حدوث فرط التهوية (Hyperventilation) وهي حالة من التنفس السريع والعميق، التي تؤدي بدورها إلى تنشيط الجهاز العصبي الودي، وهذا يعني ارتفاع في معدل ضربات القلب من أجل تعويض نقص الأوكسجين في الدم. بالإضافة إلى ذلك، ونتيجة أن الرئتين والقلب يعملان بجهد أكبر من المعتاد، فإن الجسم سيحاول التخلص من كل حمولة "ليست ضرورية"، عن طريق زيادة التبول والتبول اللاإرادي.
مشكلات النوم
أيضاً، قد تكون مشكلات النوم شائعة جداً عند المرتفعات العالية، إذ يؤثر نقص الأوكسجين بشكل مباشر على مركز النوم في الدماغ، ما يسبب نوماً خفيفاً وأقصر مدة مع كثرة الاستيقاظ، بالإضافة إلى وجود نمط غير منتظم من التنفس أثناء النوم يجعل الشخص يستيقظ مع إحساس بضيق التنفس أو الاختناق.
مشكلات الأداء البدني
يؤدي نقص الأوكسجين الشديد في المرتفعات العالية إلى انخفاض ملحوظ في كثافة الألياف العضلية، وزيادة إجهاد الحجاب الحاجز وعضلات البطن ما يؤدي إلى ضعف أداء التمارين الرياضية، وهذا يعني أن المشي أو الجري في المرتفعات العالية يكون على نحو أبطأ، مع الحاجة إلى أخذ المزيد من فترات الراحة تجنباً للإرهاق.
اقرأ أيضاً: ما هو النظام الغذائي الصحي والجيد بالنسبة للرياضيين؟
هل يمكن التكيّف مع المرتفعات؟
لحسن الحظ، فإن جسم الإنسان لديه سلسلة من التعديلات الفيزيولوجية لتعويض نقص الأكسجة، مثل: زيادة التهوية السنخية (الحويصلات الرئوية)، وزيادة تكون كريات الدم الحمراء ما يؤدي إلى زيادة تركيز الهيموغلوبين (المركب الذي يحمل الأوكسجين في الدم)، بالإضافة إلى زيادة امتصاص الأوكسجين بواسطة الأنسجة. وهذه التعديلات الفيزيولوجية يُطلق عليها اسم التأقلم (Acclimatization).
بشكل عام، غالباً ما يتحسن إمداد الأوكسجين في أنسجة الجسم في غضون أيام قليلة إلى أسابيع. ولكن، وعلى الرغم من أن أجسام العديد من الناس تتأقلم مع المرتفعات، فإنه وفي بعض الأحيان، قد تستجيب بعض الأجسام بشكل أبطأ أو قد لا تستجيب على الإطلاق، أو قد تكون التغيرات الفيزيولوجية غير كافية للتأقلم، وحينها قد تحدث بعض الحالات المرضية الناتجة عن تسلق المرتفعات الشاهقة.
اقرأ أيضاً: الكرياتين: أكثر من مجرد مكمل غذائي بالنسبة للرياضيين؟
ما الحالات المرضية المرتبطة بتسلق المرتفعات الشاهقة؟
تحدث الأمراض المرتبطة بالمرتفعات العالية نتيجة نقص الأوكسجين الذي يحصل عند الأشخاص الأصحاء الذين يتسلقون المرتفعات بسرعة كبيرة جداً دون تمهل وتخصيص الوقت الكافي للتأقلم. وعوامل الخطر التي تسبب حدوث الحالات المرضية المرتبطة بالمرتفعات هي:
- الارتفاع المطلق للمنطقة التي يصل إليها الشخص.
- سرعة الصعود، إذ من المهم أن يتسلق الشخص المرتفعات بشكل تدريجي، فعند الوصول إلى ارتفاع 2500 متر، يُنصح بعدم تسلق أكثر من 305 أمتار في اليوم، كي يتسنى للجسم أن يتأقلم.
- الاستعداد الفردي للإصابة بالأمراض وهي عوامل متعلقة بالفيزيولوجيا الفردية التي تختلف من شخص إلى آخر.
- مشكلات في التأقلم.
من الاضطرابات الصحية المرتبطة بالمرتفعات العالية ما يلي:
- داء المرتفعات الحاد (Acute mountain sickness): وهو أكثر الاضطرابات المرتبطة بالمرتفعات العالية شيوعاً، وأعراضه الأولية هي الصداع الشديد مع بعض الأعراض الأخرى التي قد تشمل: الغثيان، والإعياء، والدوخة، والنعاس، والأرق. يبلغ معدل حدوثه من 8-25% عند ارتفاع 2500-3000 متر، و40-60% عند ارتفاع 4500 متر.
- الوذمة الرئوية في المرتفعات (High-Altitude Pulmonary edema): تحدث عندما تتجمع السوائل الزائدة في الرئتين، ما يسبب ضيقاً وصعوبة في التنفس وكلاً من السعال والبلغم الرغوي أو الدموي.
- الوذمة الدماغية في المرتفعات (High-Altitude Cerebral edema): تحدث عندما تتجمع السوائل الزائدة في الدماغ، وتسبب بالإضافة إلى الصداع الشديد والقيء حدوث ارتباك ذهني وسلوك غير معهود ونعاس وصعوبة في المشي وفقدان الوعي.
- الوذمة المحيطية (Peripheral edema): تسبب تورم اليدين والقدمين والوجه.
- التهاب الشعب الهوائية في المرتفعات.
- التهاب الحلق الناتج عن المرتفعات.
اقرأ أيضاً: كيف تمارس رياضة المشي بطريقة صحيحة؟
وإذا أراد المتسلقون تسلق قمة جبل إيفرست، وهي أعلى قمة في العالم بارتفاع يبلغ نحو 8,848 متر فوق مستوى سطح البحر، فعليهم الدخول إلى ما يُعرف بمنطقة الموت، وهي المنطقة التي يزيد ارتفاعها على 8 آلاف متر، حيث يوجد القليل جداً من الأوكسجين، بحيث يبدأ الجسم في الموت دقيقة بعد دقيقة وخلية تلو أخرى. إذ وفي هذه المنطقة، تتعطش أدمغة المتسلقين ورئاتهم للأوكسجين ويزداد خطر تعرضهم لسكتة قلبية أو دماغية، وسرعان ما تضعف قواهم الذهنية. باختصار، يجد الإنسان نفسه في سباق مع الزمن، فإما أن يعود أدراجه بسرعة وإما الموت. ويا لها من مغامرة عجيبة.