قوة العلاقة بين العقل والجسم معروفة بالنسبة للرياضيين المحترفين منذ زمن.
عبّر «بافو نورمي» (1897-1973)، عداء المسافات المتوسطة والطويلة الحاصل على ميدالية ذهبية أولمبية 9 مرات، والذي لُقّب بالفنلندي الطائر، عن ذلك عندما قال: «العقل هو كل شيء، بينما العضلات هي قطع من المطاط. كل ما أنا عليه هو بسبب عقلي».
هذه أيضاً فلسفة «إليود كيبشوغ» من كينيا، الذي يمكن القول إنه أعظم عداء ماراثون في التاريخ. يقول كيبشوغ: «أقول دائماً إنني لا أركض بواسطة ساقيّ، لكنني أركض باستخدام قلبي وعقلي»، ويضيف: «ما يجعل الشخص يركض أكثر هو عقله. إذا كان عقلك هادئاً ومركّزاً بشكل جيّد، فسيكون جسمك تحت السيطرة بالكامل».
بدأ العلماء الآن يفهمون هذا التفكير. وقد تساعد نتائج جديدة الرياضيين المحترفين في الفوز بالأرقام القياسية العالمية، لكنها أكثر صلة بالمتمرنين المترددين الذين يكافحون للالتزام بنظام لياقة بدنية. من خلال تبنّي العقلية الصحيحة، حتى أكثر الأشخاص خمولاً قد يحصلون على المزيد من المنافع من التدريبات.
العقلية أهم من الجهد
ينبع جزء كبير من هذا الفهم الجديد من دراسات تأثير الدواء الوهمي. خذ بعين الاعتبار الأبحاث التي أجريت على الكافيين، وهي مادة منبّهة للعضلات يُعتقد أنها تُعزز الأداء في العديد من الرياضات. في إحدى الدراسات، أُعطي لاعبو كمال الأجسام جرعة من سائل مرير المذاق، ما جعلهم يعتقدون أنه يحتوي على نسبة عالية من الكافيين. في الواقع، كانت الجرعة منزوعة الكافيين، مع ذلك، تمكّن المشاركون من زيادة عدّات التمارين بنسبة 10% أكثر من الحد السابق.
قام باحثون آخرون بفحص تأثير التوقعات الشخصية على «السعة الهوائية القصوى» للمشاركين (أي أقصى معدّل لاستهلاك الأوكسجين أثناء التمارين متزايدة الشدّة، والذي يُرمز له بـ «في أو2 ماكس»). لمعرفة ما إذا كانت ردود الفعل الإيجابية يمكن أن تغير هذا المقياس الأساسي للياقة، طلب الباحثون من جامعة نيفادا، لاس فيغاس، من مجموعة من المشاركين الخضوع لاختباري في أو2 ماكس. على الرغم من أن الاختبار الأول تم قياسه بدقة، إلا أن بعض المشاركين تلقوا تقييماً إيجابيّاً مزيفاً حول أدائهم. أدى ذلك إلى نتيجة أفضل بكثير في الاختبار الثاني بعد بضعة أيام. بمعنى آخر، مدى اللياقة الظاهرة للمشارك تغيّر وفقاً لاعتقاده بمدى لياقته.
وفقاً لورقة علمية نُشرت في عام 2019، تتفاعل توقعاتنا حول قدراتنا الجسدية مع استعداداتنا الوراثية لممارسة الرياضة. أجرى العلماء في هذه الدراسة أولاً اختباراً وراثياً لتحديد ما إذا كان المشاركون لديهم نسخة معينة من مورثة تدعى «سي آر إي بي 1»، والتي يُعتقد أنها تقلل من السعة الهوائية وتزيد درجة حرارة الجسم أثناء التمرين. كان الاختبار حقيقياً، واحتفظ الباحثون بسجل للنتائج. مع ذلك، كانت النتائج المعطاة للمشاركين عشوائية، ما خلق لديهم توقعات بأنهم أدوا بشكل جيد أو سيء «بشكل طبيعي» في التمرين. أظهر أولئك الذين لديهم توقعات سلبية انخفاضاً في القدرة على التحمل، مع انخفاض تدفق الهواء داخل وخارج الرئتين ونقل الأوكسجين وثنائي أوكسيد الكربون. في بعض هذه القياسات الفيزيولوجية، يبدو أن تأثيرات التوقعات تؤثر أكثر من نوع المورثة.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر المشي لمسافات قصيرة على صحة المجتمع ككل؟
التمرين غير المرئي
تتعلق بعض تأثيرات التوقع الأكثر لفتاً للنظر بتصوراتنا عن لياقتنا البدنية خارج صالة الألعاب الرياضية. يمكن للعديد من المهام اليومية تقوية الجسم، على الرغم من أنها لا تشبه التمارين المعتادة. وفقاً لبحث رائد، قد يحدد المغزى الذي نربطه بهذه الأنشطة ما إذا كنا سنجني الفوائد الكاملة للتمرين أم لا.
لا ينبغي أن يكون وجود «تمرين غير مرئي» مفاجئاً، يعود فهمنا له إلى أول دراسة أجريت للتحقق من فوائد النشاط البدني. بعد فترة وجيزة من الحرب العالمية الثانية، أراد «جيريمي موريس»، عالم الفيزيولوجيا البريطاني، أن يفهم لماذا يكون بعض الناس أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب من غيرهم.
تبيّن أن الرجال العاملين في حافلات لندن هم الجماعة المثلى للدراسة. أمضى السائقون معظم يومهم جالسين، بينما كان الكُمساريّة (الموظفون المسؤولون عن جمع الأجور وقطع التذاكر) يصعدون وينزلون السلالم لجمع الأجرة ومساعدة الركاب في حمل أمتعتهم. على الرغم من أن هذا كان تمريناً خفيفاً نسبياً، إلا أن موريس وجد أن النشاط اليومي يقلل من خطر إصابة سائقي الحافلات بفشل القلب إلى النصف تقريباً.
ألهمت النتائج التي توصل إليها موريس سلسلة من الأبحاث الإضافية حول فوائد التمرين. تعود التوصيات التي يتم الترويج لها كثيراً، والتي تنص على ضرورة ممارسة التمارين المعتدلة لمدة 150 دقيقة (أو التمارين الشديدة لمدة 75 دقيقة) أسبوعياً، إلى هؤلاء الكمسارية. لكن الكثير منا لا يعلم ما الفرق بين التمارين المعتدلة والشديدة، وهذا مهم عندما يتعلق الأمر بتكوين أفكارنا المتعلقة باللياقة.
لمقارنة شدّة الأنشطة المختلفة، يستخدم علماء الفيزيولوجيا كمية تعرف باسم «المُكافئات الاستقلابية». تتراوح المكافئات الاستقلابية للتمارين المعتدلة بين 3 و6، والتمارين الشديدة لها مكافئات استقلابية تتجاوز 6. تلبي العديد من الأنشطة والتسالي اليومية المتطلبات التالية:
النشاط | المكافئ الاستقلابي |
الأعمال المنزلية | |
غسل الأرضية | 3 |
تنظيف النوافذ | 3.2 |
ترتيب السرير | 3.3 |
الطبخ/غسل الأواني | 3.3 |
تحريك الأثاث | 5.8 |
أعمال أخرى | |
النجارة (مثل طرق المسامير) | 3 |
الدهن/لصق ورق الجدران | 3.3 |
البستنة | |
تقطيع الخشب | 4.5 |
جز العشب | 6 |
التسالي | |
تمشية الكلب | 3 |
اللعب خارج المنزل مع الأطفال | 5.8 |
الرقص | 7.8 |
كم منا يلعب مع الأطفال أو يرقص طوال الليل دون أن يدرك حتى أنه يتمرن؟ على أقل تقدير، يجب أن يقودنا امتلاك تقدير أكبر لهذه الأنواع من الأنشطة إلى أن نكون أكثر إيجابية بشأن مستوى لياقتنا، وهو توقع مختلف يمكن أن يغيّر آلية التنبؤ بطريقة تجعل التدريبات الرسمية الأخرى تبدو أقل إجهاداً.
الأهم من ذلك أن هذا التحول في العقلية قد يحدد الفوائد طويلة المدى للأنشطة نفسها، وذلك وفقاً لدراسة أجرتها «أليا كروم» و«إلين لانغر» من جامعة هارفارد. من خلال التفكير في الأنشطة اليومية على أنها تمرين وليس عمل، يمكننا أن نحسن صحتنا.
كان المشاركون في الدراسة عمال نظافة من 7 فنادق مختلفة. اشتبهت كروم ولانغر في أن القليل من هؤلاء العمال سيكونون على دراية بالقدر الهائل من الجهد الذي تتطلبه وظيفتهم، وبالنظر إلى تأثير التوقع الشخصي بفيزيولوجيا الجسم، فإن هذا قد يمنعهم من الحصول على الفوائد الكاملة للتمرين اليومي. لاختبار هذه الفكرة، زار العلماء 4 من الفنادق وأعطوا عمال النظافة معلومات عن أنواع النشاط البدني التي تعتبر تمريناً، ثم قدموا بعض التفاصيل حول المتطلبات الطاقيّة للعمل الذي يقوم به عمال النظافة، والتي كانت تقابل، على مدار أسبوع، توصيات التمرينات التي يقدّمها الجراح العام.
بعد شهر، زار العلماء عمال النظافة مرة أخرى لقياس أي تغيرات في صحتهم. على الرغم من عدم الإبلاغ عن أي تغييرات في نظامهم الغذائي أو زيادة النشاط البدني خارج العمل، فقد كل عامل من الذين تلقوا هذه المعلومات نحو كيلوغرام واحد من الوزن، وانخفض متوسط ضغط الدم لديهم من مستوى مرتفع إلى الطبيعي. التغيير في التوقعات، والمغزى الذي نسبه عمال النظافة للأنشطة التي يمارسونها، قد غيّر أجسادهم، في حين أن عمال النظافة في الفنادق الثلاثة المتبقية، والذين لم يتلقوا المعلومات، لم يشهدوا أية تغيرات في صحتهم.
كانت هذه الدراسة ضيقة نسبياَ، وهناك دائماً احتمال أن العمال أصبحوا يبذلون جهداً أكبير في عملهم بعد حصولهم على المعلومات. لكن تقدّم دراسة متابعة أجرتها كروم، والتي أصبحت تعمل حالياً في جامعة ستانفورد، وزميلتها «أوكتافيا زارت» أدلة أكثر إقناعاً على أن توقعات المشاركين يمكن أن تؤثر حقاً على الفوائد طويلة المدى للتمرين بسبب العلاقة بين العقل والجسم. استخدمت دراستهم بيانات من المسوحات الصحية التي تتبعت أكثر من 60 ألف شخص لمدة تصل إلى 21 عاماً. وجدت كروم وزارت أن «النشاط البدني المُدرَك» للمشاركين، أي ما إذ شعروا بأنهم مارسوا تمارين رياضية أكثر أو أقل من الشخص العادي، يمكن أن يساعد في التنبؤ بخطر وفاتهم، حتى بعد قياس الباحثين لمقدار الوقت الذي قال المشاركون إنهم أمضوه بالفعل في ممارسة الرياضة، ولعوامل أخرى تتعلق بنمط الحياة، مثل النظام الغذائي.
كم منا يلعب مع الأطفال أو يرقص طوال الليل دون أن يدرك حتى أنه يتمرن؟
الأهم من ذلك هو أن بعض المشاركين في هذه الاستطلاعات قد ارتدوا مقاييس التسارع لجزء من فترة الدراسة، ومع ذلك، لم يختفِ تأثير نشاطهم البدني المُدرك بعد أن أخذ الباحثون هذه القياسات الموضوعية للنشاط البدني في الاعتبار. بشكل عام، كان الأشخاص الذين اتخذوا وجهة نظر أكثر تشاؤماً بشأن لياقتهم البدنية أكثر عرضة للوفاة بنسبة تصل إلى 71% في المسوحات، وذلك مقارنةً بأولئك الذين اعتقدوا أنهم كانوا أكثر نشاطاً من المتوسط، بغض النظر عن طبيعة التمارين التي أجروها.
تلخيصاً للأدلة ذات الصلة حتى الآن، خلصت ورقة مراجعة حديثة إلى أن التوقعات من التمرين يمكن أن تؤثر على الجهد الملحوظ والمزاج وفوائد الثقة بالنفس واللياقة القلبية التنفسية وضغط الدم، وهي جميع النتائج المهمة لأي تمرين.
اقرأ أيضاً: هل تكره التمرين في الصالات الرياضية؟ عليك بالمشي كبديلٍ عنه
ما تأثير كل هذا عليك؟
هناك العديد من الطرق التي يمكننا من خلالها تطبيق تأثيرات التوقع هذه بأنفسنا.
الخطوة الأولى هي أن تكون صادقاً بشأن افتراضاتك الحالية. ربما تكون قد كونت قناعات سلبية حول قدرتك المتأصلة لأن تتمتع باللياقة، بناءً على التجارب السيئة في صفوف الصالة الرياضية في المدرسة مثلاً. إذا كان الأمر كذلك، يمكنك محاولة التساؤل عما إذا كانت هذه القناعات تعكس حقيقة موضوعية/ كما يمكنك أن تذكّر نفسك بأن كل شخص لديه القدرة على تحسين لياقته، بغض النظر عن حالته الحالية.
ثانياً، يمكنك محاولة إعادة صياغة مشاعر التمرين نفسها. بالنسبة للكثير من الناس، فإن ضيق التنفس والتعرق يؤدي إلى أنماط سلبية من التفكير، مثل الاعتقاد بأنك «ميؤوس منك» و«ضعيف» ومحكوم عليك بالفشل. بدلاً من ذلك، ذكر نفسك أن الأوجاع والآلام هي علامة على أنك تبني قوة عضلاتك، وتزيد من تدفق الدم وتوسع رئتيك.
ثالثاً، يجب تجنب «المقارنات التصاعدية». إن مواقع مثل «إنستقرام» و«تيك توك» مليئة بحسابات «الملهمين»، لكن تشير الدراسات إلى أن النظر إلى هذه الصور ومقاطع الفيديو قبل التمرين يمكن أن يؤدي إلى توليد صورة أسوأ للجسم ومشاعر أكبر من الإرهاق أثناء التمرين.
لا يمكننا تحقيق معجزات فورية عند تطبيق هذا البحث، ولكن حتى تأثيرات التوقع المتواضعة يمكن أن تجعل من السهل عليك الالتزام بأهداف اللياقة البدنية الخاصة بك. ستكون النتيجة النهائية هي حياة أطول وأكثر سعادة وصحة، وهي جائزة أفضل بكثير من أية ميدالية ذهبية.
هذا المقال مقتبس من كتاب «تأثير التوقع: كيف يمكن لعقليتك أن تغير عالمك»، بقلم «ديفيد روبسون»، بإذن من هنري هولت وشركاه. حقوق النشر 2022 بواسطة ديفيد روبسون.