ع انخفاض درجات الحرارة في الخارج، وارتفاعها داخل المنازل، لابد أننا نواجه عدواً واحداً مشترك يعكر صفو نومنا ولا ينفك عن إزعاجنا، البعوض. تلك الحشرة التي تمتلك خبرة في الحياة تفوق خبرة البشر بملايين السنين. الآن لنقاوم رغبتنا بسحقها قليلاً، ونلقِ نظرةً عن كثب على هذا الكائن الطنّان.
البعوض يجاور الديناصورات دون خوف
بدأ البعوض بالتطور في جنوب إفريقيا قبل حوالي 79 - 100 مليون سنة في العصر الجوراسي عندما كانت الديناصورات تجوب الكوكب بكامل حريتها، وأخذ بعد ذلك ينتشر إلى بقية أنحاء العالم عدا القارة القطبية الجنوبية التي لا يسمح الطقس فيها بحياة هذه الحشرة. كما أنها كانت أكبر حجماً بثلاثة أضعاف ما هي عليه اليوم بسبب ارتفاع كمية الأوكسجين على سطح الكوكب. وتصل أصناف البعوض اليوم إلى الحد الذي يوجد فيه ما يقارب الـ3000 نوع مختلف منها، فقط 200 منها مهتم بامتصاص دم الإنسان، وإناثها فقط التي تفعل، وذلك كافياً لقتل ما يزيد عن 725 ألف شخص سنوياً بسبب الأمراض التي تنقلها، جاعلاً إياها تتربع على عرش أكثر الكائنات فتكاً بالإنسان.
يعتبر البعوض كائن متكيف من الطراز الأول مع البيئات الجديدة أو أية تدخل ضده، على سبيل المثال، تكيفت بعوضة «الزاعجة المصرية» -المسؤولة عن نقل الحمى الصفراء والزيكا وحمى الضنك وغيرها- بشكل جيد للغاية مع البيئات الحضرية؛ فهي تتغذى فقط على البشر ويمكن أن تضع البيض في مجموعة واسعة من الأماكن في البيئات الداخلية المغلقة والخارجة المفتوحة. كما طورت العديد من أنواع البعوض، مقاومة ضد مجموعة متنوعة من المبيدات الحشرية وغيرت عاداتها الغذائية لتجنب الناموسيات المنزلية والمبيدات التي يتم رشها بها.
أهمية البعوض في النظام البيئي
في الحقيقة، إن للحشرة ما تخدم به النظام البيئي أكثر من التطفل على البشر والتغذي على دمائهم، بل أنها تلعب دوراً بيئياً مختلفاً في كل مرحلة من مراحل حياتها. فبعد أن تضع إناث البعوض بيضها، التي قد تبلغ المئات في المرة الواحدة، في المياه الراكدة، تتطور إلى يرقات تُعرف باسم «المتذبذبات». تتدلى رأساً على عقب من على سطح الماء التي فقست فيه وتتنفس من خلال أنبوب السيفون. وبمحدودية حركتها، تشكّل وليمة سهلة لمخلوقات مثل الضفادع وأسماك السمندل. وحتى قبل أن تتمكن من الطيران، يمكنها أن تكون أكثر من مجرد طعام لأنواع أخرى. إذ تقوم بتصفية المواد العضوية في الماء، وهضم الأوراق المتحللة والكائنات الدقيقة الأخرى وإفراز النيتروجين والمواد المغذية التي تشجع نمو النبات.
تنمو تلك اليرقات بعد ذلك وتكتسب ذيلًا يدفعها عبر الماء. وفي غضون يومين تقريباً تخرج من الماء كبعوض بالغ وتطير بعيداً لتتغذى ذكورها على رحيق الفاكهة والزهور والنباتات الأخرى، لذا يعد البعوض ملقحاً مفيداً للأزهار. أيضاً تلقيحها للزهور يوفر مصدراً لغذاء العديد من الحيوانات مثل الطيور والخفافيش واليعسوب. كما يشكّل البعوض الناضج غذاءً للعديد من العناكب والحشرات الأخرى.
ماذا سيحدث لو اختفى البعوض كلياً؟
في البداية، علينا أن نعلم أن أعداد البعوض في فترة التكاثر تكاد تفوق أعداد جميع الحيوانات الأخرى عدا النمل، وتقدّر أعدادها بآلاف الترليونات. لذا، طريقة القضاء عليها ليست بالسهولة التي يبدو عليها الأمر، لكن خلص باحثون إلى طريقة وراثية تجعل البعوض ينتج ذكوراً أكثر من الإناث، ومع كل جيل جديد يتفوق فيه عدد الذكور ستصبح الأنواع في النهاية محدودة ذاتياً. استخدم الباحثون في هذه التجربة إنزيمًا يؤثر على «الصبغي X» أثناء إنتاج الحيوانات المنوية، بحيث ينتج عن معظم الحيوانات المنوية ذكور البعوض.
ومع ذلك اتضح للعلماء أن القضاء على البعوض، سيؤدي إلى خللٍ بيئي. ففي القطب الشمالي على سبيل المثال، حيث تشكل العديد من أنواع البعوض وجبة الغذاء الرئيسية للطيور المهاجرة. فإذا تم القضاء على البعوض، سينخفض عدد الطيور في المنطقة بأكثر من النصف، ويتوقع بعض العلماء مصيراً مشابهاً ينتظر العديد من أنواع الأسماك حول العالم، والتي قد تحتاج إلى إعادة تكييف نظامها الغذائي للبقاء على قيد الحياة. وسيكون هذا السيناريو صعباً بشكل خاص على الأسماك التي تعتمد بشكل أساسي على يرقات البعوض في غذائها.
لذا، فإن اختفاء البعوض، سيؤدي بالضرورة إلى تضاؤل أعداد الحشرات والأسماك الأخرى التي تتغذى عليها، مما سيسبب بدوره تأثيراً كبيراً في جميع أنحاء السلسلة الغذائية.
بالرغم من ذلك، يتوقع بعض العلماء أنه في حين أن بعض الحيوانات ستجوع، فإن ذلك لن يؤدي إلى كارثة. سيتكيف معظم هذه الأنواع في النهاية مع الفرائس الأخرى وستستمر الحياة، وما يجعل الأمر يستحق عناء التجربة أنها ستستمر حينها من دون الأمراض التي ينقلها البعوض. وسنتجنب وفاة أكثر من 700 ألف شخص وإصابة 246 مليون آخرين سنوياً.