هل يمكن أن تكون قراراتك المهنية والإدارية متأثرة بما يحدث في أمعائك؟ قد يبدو السؤال غريباً، لكن العلم الحديث يؤكد أن جهازك الهضمي، تحديداً الميكروبيوم الذي يعيش داخله، يؤدي دوراً أساسياً في التفكير والذاكرة وتنظيم الانفعالات، وحتى في طريقة حسابك للمخاطر واتخاذك للقرارات. فما هو الدور الذي يقوم به؟ وكيف يمكن استخدامه لاتخاذ قرارات أفضل؟ لنتابع في هذا المقال.
الجهاز العصبي المعوي: الدماغ الثاني
يضم الجهاز العصبي اللاإرادي ثلاثة أقسام رئيسية:
- الجهاز العصبي الودي (السمبثاوي)، الذي ينشط استجابة "الكر والفر" عند الإحساس بالخطر.
- الجهاز العصبي اللاودي (الباراسمبثاوي)، الذي يهدئ الجسم بعد زوال الخطر.
- الجهاز العصبي المعوي، المسؤول عن تنظيم وظائف الجهاز الهضمي، مثل الهضم والامتصاص وحركة الطعام وإفراز الإنزيمات وتنظيم تدفق الدم والاستجابات المناعية داخل الأمعاء.
يتكون هذا الجهاز من شبكة تضم أكثر من 100 مليون خلية عصبية تمتد من المريء إلى فتحة الشرج، أي أكثر مما في الحبل الشوكي بأكمله. والأهم أنه يعمل بصورة مستقلة عن الدماغ، لكنه في الوقت ذاته يتواصل معه باستمرار عبر العصب المبهم فيما يعرف بمحور الأمعاء - الدماغ. لهذا السبب يطلق عليه العلماء اسم "الدماغ الثاني".
إضافة إلى ذلك، تعيش داخل أمعائك تريليونات من الكائنات الدقيقة تعرف باسم "الميكروبيوم المعوي"، وهي بكتيريا نافعة وفطريات وفيروسات تعمل معاً للحفاظ على توازن الجسم. هذه الميكروبات تنتج مواد كيميائية ومركبات حيوية تؤثر في عمل الأعصاب والمناعة، وعند اضطرابها تبدأ مشكلات تتجاوز الهضم إلى المزاج والإدراك وحتى القرارات اليومية.
اقرأ أيضاً: ما هي مكونات الجهاز العصبي وكيف يعمل؟
كيف تؤثر صحة الأمعاء في أداء الموظف؟
الأمعاء ليست مجرد عضو هضمي، بل هي مركز تحكم يرسل إشارات عصبية وهرمونية ومناعية إلى الدماغ. وتأثيرها في بيئة العمل يمكن تلخيصه في ثلاثة محاور رئيسية:
- الميكروبيوم المعوي: تنتج الميكروبات التي تعيش في أمعائك مجموعة متنوعة من المستقلبات وجزيئات الإشارة التي يمكن أن تؤثر في فيزيولوجيا الجسم، بما فيها الوظائف العصبية، وامتصاص العناصر الغذائية، وتخليق الفيتامينات. في المقابل، يسبب اختلال توازن هذه الميكروبات على المدى الطويل مشكلات مثل الانزعاج الهضمي، والتعب المزمن، والحالات الالتهابية، واضطرابات التمثيل الغذائي، وضعف المناعة الذاتية، واضطرابات الصحة النفسية، وهي مشكلات تضعف الإنتاجية وتؤثر في العلاقات المهنية واتخاذ القرارات.
- إنتاج النواقل العصبية: تنتج الأمعاء نحو 95% من السيروتونين، الذي يطلق عليه غالباً "هرمون السعادة"، وهو ناقل عصبي ينظم المزاج والنوم وحتى الوظائف الإدراكية كالتعلم والذاكرة. كما تنتج ميكروبات الأمعاء نواقل عصبية أخرى مثل حمض غاما أمينوبوتيريك، الذي يساعد على التحكم في مشاعر الخوف والقلق. في حال اختلال توازن الميكروبيوم، يمكن أن يحفز الميكروبيوم غير الصحي إنتاج هرمون التوتر (الكورتيزول)، ما يؤدي إلى اضطراب النوم والقلق وصعوبة التركيز.
- المناعة: يوجد نحو 70% من جهاز المناعة في بطانة الأمعاء، التي تعمل باعتبارها حاجزاً دفاعياً يحدد ما يدخل إلى مجرى الدم. الأمعاء الصحية تعني مقاومة أفضل للأمراض ونزلات البرد والإجهاد، وبالتالي عدد أقل من أيام الغياب عن العمل، وطاقة أعلى في المهام اليومية.
اقرأ أيضاً: أبرز 10 مشكلات هضمية تصيب المدراء
كيف تؤثر صحة الأمعاء في طريقة اتخاذ القرارات الصعبة؟
القرارات الإدارية ليست عمليات منطقية بحتة؛ فهي مزيج من العاطفة والحدس وتحليل المخاطر، وهنا يظهر تأثير الميكروبيوم بوضوح.
تشير دراسة حديثة أجراها باحثون في جامعة بون الألمانية وجامعة السوربون الفرنسية، إلى أن المشاركين الذين تناولوا مدة 7 أسابيع مكملاً غذائياً يحوي بكتيريا نافعة (بروبيوتيك) وأليافاً محفزة لها (بريبيوتيك)، ثم خضعوا لاختبار يعرف باسم "لعبة الإنذار النهائي" لقياس مدى استعدادهم لرفض عروض مالية غير عادلة حتى على حساب خسارتهم الشخصية، أظهروا ميلاً أكبر لمعاقبة السلوك غير العادل، أي رفضوا العروض المالية الظالمة أكثر من غيرهم. بعبارات أخرى، لا يؤثر توازن ميكروبات الأمعاء فقط في الهضم أو المناعة، بل قد يمتد ليشكل طريقة اتخاذك للقرارات الاجتماعية، مثل العدالة والكرم والعقاب الأخلاقي.
علاوة على ذلك، يمكن أن يؤثر الميكروبيوم في مناطق الدماغ المسؤولة عن العواطف والتخطيط والذاكرة، ما ينعكس على السمات القيادية والإدارة الاستراتيجية. ويمكن تلخيص هذا التأثير في 3 نقاط رئيسية:
- حساب المخاطر والمكافآت: وفقاً لدراسة أجرتها جامعة ماستريخت، عندما يكون الميكروبيوم المعوي في حالة جيدة، تصبح قدرتك على تقييم المخاطر أدق، وتميل إلى التفكير الطويل الأمد بدلاً من الإشباع الفوري. أما اضطراب الميكروبيوم فيجعلك أكثر عرضة لاتخاذ قرارات متهورة أو تأجيل المهمات الصعبة.
- القرارات العاطفية: القرارات ليست عقلانية بحتة، بل تتأثر بالمزاج والتوتر والإرهاق المعرفي. يؤثر ميكروبيوم الأمعاء في مناطق الدماغ المرتبطة بالعاطفة والذاكرة واتخاذ القرارات؛ فعندما تكون إشاراتك المعوية غير متوازنة، قد تتخذ المزيد من القرارات التي تكون رد فعل مباشراً على حدث أو مشكلة دون تخطيط مسبق، وتعاني التشتت والإقبال على المهام غير المريحة، بدلاً من الخيارات الاستراتيجية المدروسة.
- الوضوح والتركيز المعرفي: يشير البحث المنشور في تقارير علم الأعصاب الصادرة عن المنظمة الدولية لبحوث الأعصاب إلى أن محور الأمعاء - الدماغ يؤدي دوراً في الانتباه والذاكرة العاملة، حيث يعزز الميكروبيوم المتوازن صفاء الذهن والتركيز والانغماس في العمل.
اقرأ أيضاً: كيف تساعدك تمارين التحمل البدني على اتخاذ قرارات أفضل تحت الضغط؟
نصائح لميكروبيوم يساعد على اتخاذ قرارات أفضل
إذا كنت تسعى لتحسين قراراتك وجودة تفكيرك، فابدأ من خلال تعزيز الميكروبيوم المعوي، ويمكنك اتباع النصائح التالية:
- تناول ما يغذي الميكروبات المعوية: احرص على تناول الألياف الموجودة في الخضروات والفواكه والبقوليات والحبوب الكاملة، وأضف أطعمة غنية بالبروبيوتيك مثل الزبادي أو الكفير أو المخللات الطبيعية. وابتعد قدر الإمكان عن الأطعمة فائقة المعالجة والمليئة بالسكر، فهي تقلل التنوع الميكروبي.
- راقب نمط حياتك: بعض العوامل تقلل جودة الميكروبيوم المعوي مثل التوتر المزمن وقلة النوم وعدم انتظام الوجبات. لذا، حافظ على روتين نوم ثابت وجدول وجبات منتظم، ومارس أي شكل من الحركة اليومية؛ حتى التمارين البسيطة في أثناء الجلوس يمكن أن تفي بالغرض.
- اتخذ قراراتك في أفضل حالاتك الجسدية: لا تتخذ قرارات حاسمة وأنت جائع أو منهك أو متوتر. الجوع والعطش والتعب تغير توازن الميكروبيوم، وبالتالي تغير مزاجك وحدسك. حاول مراجعة القرارات المهمة بعد تناول وجبة صحية أو فترة راحة قصيرة.
- حافظ على الترطيب: يوفر شرب لترين من الماء كل يوم فوائد متعددة للأمعاء، إذ يساعد على تحسين عملية الهضم وتنظيم حركات الأمعاء ومنع الإمساك، ما يؤدي بدوره إلى إعادة توازن الميكروبات الصحية إلى الأمعاء.