كيف يحافظ جسم الإنسان على توازنه الداخلي وسلامة أعضائه؟

كيف يحافظ الجسم على توازنه الداخلي؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Black Salmon
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إذا خرجت من مبنى بارد في يوم حار ومشمس، ستلاحظ على الأرجح أن جلدك سيبدأ بالاحمرار. وستتشكل عندها قطيرات العرق عندما يتعرض جسمك للحرارة. تطوّرت ردود الفعل هذه لتعزيز قدرة البشر على البقاء، على الرغم من أنها قد تكون مزعجة. الاستجابات السابقة الذكر هي جزء من العملية التلقائية التي تهدف لإعادة الجسم إلى درجة الحرارة الداخلية النموذجية البالغة 37 درجة مئوية.

هذه العملية هي واحدة من العديد من آليات التنظيم الذاتي في الجسم، التي تعمل جميعها على الحفاظ على بيئة داخلية مستقرة في أي حالة، ولا ينطبق ذلك على درجة الحرارة فقط بل على ضغط الدم ودرجة الحموضة أيضاً. يُجري الجسم هذه التعديلات الفيزيولوجية من دون الحاجة إلى التفكير. وتحمل هذه القدرة الفريدة اسم الاستتباب الداخلي.

تقول المحاضِرة الرئيسية في جامعة كوينز في بلفاست، إيتين تانزي، التي تدير مركز تعليم العلوم الطبية الحيوية: “كلما ابتعد جسمك عن الحالة النموذجية، سيصبح معرضاً للخطر أكثر. بغياب حالة الاستتباب، قد يؤدي إجهاد الآليات التي تعمل في الحالة الطبيعية إلى الإصابة بالأمراض”.

ما هي حالة الاستتباب الداخلي؟

يتألّف مصطلح “الاستتباب” بالإنجليزية (homeostasis) من كلمتين يونانيتين، الأولى هي “homio”، وتعني “مشابه لـ”، والثانية هي “stasis”، التي تُترجم إلى “الوقوف بلا حراك”. تطبِّق الكائنات الحية جميعها على الأرض، باستثناء الفيروسات، أنواعاً مختلفة من آليات التنظيم الذاتي للحفاظ على ظروف داخلية ثابتة. يتحقق التوازن بالنسبة لبعض الوظائف البشرية في نطاق ضيق نسبياً يحمل اسم “القيمة المستهدفة”. على سبيل المثال، تبلغ درجة الحرارة المثلى للجسم 37 درجة مئوية تقريباً. لكن القيمة المستهدفة في بعض الوظائف الجسدية الأخرى مرنة أكثر.

اقرأ أيضاً: ما حاجة الجسم من الملح والبوتاسيوم وما دورهما في الحفاظ على صحته؟

يُجري نظام داخلي لإرسال الإشارات واستقبالها هذه التعديلات جميعها. وتحافظ 3 مكونات على حالة الاستتباب الداخلي، وهي المستقبلات ومركز التكامل والعوامل الفاعلة. على سبيل المثال، تراقب المستقبِلات، التي يمكن أن تمثّل فئة خاصة من البروتينات أو الخلايا العصبية المتخصصة، الظروف مثل درجة الحرارة أو ضغط الدم في جميع أنحاء الجسم. عندما يتحسس المستقبِل تغيّراً ما، فهو يرسل إشارة إلى مركز التكامل، الذي يحمل أيضاً اسم مركز التحكم أحياناً.

تؤدي منطقة في الدماغ تحمل اسم الوطاء (أو تحت المهاد) دور مركز التكامل لدى البشر عادة، وهي تنظّم درجة الحرارة ومعدل ضربات القلب ومستويات الجوع وتوازن الماء والساعات البيولوجية وغيرها من الوظائف الأساسية. تقول تانزي: “مركز التكامل هو المكان الذي يُقارن فيه التغيير بالقيمة المستهدفة”.

الخطوة الأخيرة هي الاستجابة، التي تتضمن غالباً نظام الغدد الصماء أو الجهاز العصبي. تصل الإشارات التي يرسلها هذان النظامان إلى العوامل الفاعلة، وهي الأجزاء من الجسم التي تحفّز الاستجابات الفيزيولوجية اللازمة. على سبيل المثال، تشمل العوامل الفاعلة في عملية تنظيم درجة الحرارة الأوعية الدموية والغدد العرقية في الجلد. ولزيادة ضغط الدم، ستحتفظ الكلى بالمزيد من الماء. وتأخذ عضلات الحجاب الحاجز والجهاز التنفسي نفساً أعمق أو تزيد معدل التنفس لزيادة نسبة الأوكسجين. تغيّر العوامل الفاعلة الأخرى السلوك. عندما تشعر بالعطش أو تشتهي الأطعمة المالحة، فقد يعود ذلك إلى استجابة متعلقة بالاستتباب الداخلي.

بمجرد عودة الوظيفة المعنية إلى وضعها الطبيعي، ترسل المستقبلات رسالة جديدة تحمل اسم التغذية الراجعة السلبية إلى مركز التكامل. تحفّز هذه الرسالة الأجزاء الأخرى من الجسم على التوقف عن التعويض الزائد، ما يؤدي إلى إيقاف العملية.

مكيّفات الهواء الحيوية

تقول تانزي إن البشر يفقدون الحرارة في الوسط المحيط ضمن معظم الظروف. ولكن في الأوساط الحارة بصورة خاصة، ترتفع درجة حرارة الجسم بسبب الإشعاع الشمسي وانتقال الحرارة من الأشياء الأكثر دفئاً حوله بسبب ظاهرة التوصيل الحراري.

وفقاً لتانزي، على الرغم من أن الجلد يحتوي على مستقبلات لدرجة الحرارة، “فالعامل الأكثر أهمية هو درجة حرارة أعضاء الجسم الداخلية”، لذلك، توجد المستقبلات أيضاً في منطقة الوطاء نفسها وحول الأوردة والأحشاء والنخاع الشوكي.

عندما يكون الطقس حاراً للغاية، ترسل هذه المستقبلات الحرارية الإشارات إلى الوطاء. وفقاً لتانزي، يعتقد الباحثون أن هذه المنطقة من الدماغ تحدّد الفرق بين درجة حرارة الجسم الحالية ودرجة 37 مئوية من خلال تحسس التغيرات التي تطرأ على نشاط الخلايا العصبية التي تستجيب للتغيرات في درجات الحرارة في جميع أنحاء الجسم. بعد ذلك، يرسل الوطاء إشارات تنبّه الأوعية الدموية في الجلد. هناك، ترتخي العضلات الملساء المحيطة بالأوعية الدموية، ما يؤدي إلى زيادة تدفق الدم إلى سطح الجلد، ما يؤدي بدوره إلى نقل الحرارة بعيداً عن الأعضاء الدخلية. تجعل هذه العملية التي تحمل اسم التوسيع الوعائي الجلد يبدو وردياً أكثر وأكثر امتلاءً بالدم. تتنشط الملايين من الغدد العرقية في هذه المرحلة أيضاً، وتنقل قطيرات العرق الحرارة من سطح الجلد إلى الهواء من خلال عملية التبخر.

ماذا يحدث عند فشل عملية تنظيم درجة الحرارة؟

تقول الأستاذة المساعدة السريرية لعلوم التمرين في جامعة ساوث كارولينا، دون إميرسون، إنه إذا بدأ الجسم بالمعاناة للتخلص من كمية كافية من الحرارة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى الإجهاد. إذا عجز الجسم عن التعرّق، فسيفقد القدرة على فقدان الحرارة. وتحمل هذه الحالة اسم ضربة الشمس. (تقول إميرسون إنه يمكن أن تكون ضربة الشمس الإجهاديّة مختلفة بعض الشيء؛ إذ إن الذين يعانون فرط السخونة من ممارسة الرياضة قد لا يتوقفون عن التعرق).

تبدأ المشكلات بالظهور عندما يتوقف الجهاز العصبي المركزي عن العمل على النحو السليم. تقول إميرسون إن الأشخاص المصابين بضربة الشمس “تظهر عليهم علامات سلوك غير طبيعي، ويصبحون عدوانيين للغاية وينسون ما يحدث حولهم نوعاً ما لأن دماغهم لا يعمل بالطريقة الصحيحة”. يبدأ فشل الأعضاء الأخرى ضمن محاولة الجسم لاستعادة السيطرة.

اقرأ أيضاً: 10 أعراض تنبئ بوجود خلل في جهازك المناعي تعرّف عليها

لا يقتصر الفشل الشامل لأجهزة الجسم على فرط السخونة. تقول إميرسون: “عندما لا يكون الجسم في حالة الاستتباب، فإنه سيحاول باستمرار أن يصل إلى هذه الحالة، ويؤدي ذلك إلى الكثير من الإجهاد”. ويخاطر الجسم تحت الإجهاد بسلامة الوظائف الأخرى بهدف الوصول إلى حالة الاستتباب.

مع ذلك، لا يحفِّز بعض أنواع فرط السخونة حدوث هذه الاستجابة. على سبيل المثال، عند الإصابة بالحمى استجابة للعدوى أو المرض، يُنشئ الجسم قيمة مستهدفة جديدة أعلى لدرجة الحرارة. ووفقاً لإميرسون، يعود هذا إلى أن الاستجابة الالتهابية المتمثلة في رفع درجة الحرارة هي آلية مفيدة ضمن المعركة ضد مسبب المرض؛ إذ تقول: “تقتل الحرارة مسببات الأمراض”، وتتسبب زيادة تدفق الدم بنقل المزيد من خلايا الدم البيضاء إلى موقع الالتهاب لمحاربة العدوى.

تجاوز حالة الاستتباب الداخلي

قد يتمكّن البعض من تجاوز القيم المستهدفة الخاصة بحالة الاستتباب الداخلي. خذ ويم هوف الملقّب برجل الجليد مثالاً. أتمّ هوف نصف ماراثون على الثلج والجليد وهو حافي القدمين، ويستطيع البقاء تحت مكعبات الجليد لأكثر من 112 دقيقة. درس عالما أعصاب من جامعة واين ستيت التقنيات التي يطبّقها رجل الجليد، مثل التحكم في حبس النفس وفرط التنفس والتأمّل. ويقول العالمان إنه من المحتمل أن هذه السلوكيات هيّأت دماغ هوف لتحمّل الإجهاد الناجم عن غمر نفسه في الماء البالغ البرودة.

تبيّن هذه الدراسات أنه من المحتمل أن البشر قادرون على تعديل القيم المستهدفة في الجسم قليلاً، لكن إجبار الجسم على تجاوز هذه القيم يمكن أن يكون خطيراً.

تقول تانزي: “يمكنك تجاوز عملية الاستتباب، مثل أن تشرب كميات كبيرة من الماء دون الحاجة إلى ذلك”. ولكن إذا شربت كمية مفرطة، يمكن أن تنخفض مستويات الصوديوم في الخلايا لأنها تنتفخ بسبب الماء، وهو أمر خطير بصورة خاصة عندما يحدث لخلايا الدماغ. تقول تانزي: “يمكن أن يتسبب ذلك بالموت”.

يحدث أحد التجاوزات الشائعة الأخرى خلال ممارسة تمارين اللياقة. تقول إميرسون إنه عند التدريب، من الممكن أن تحفّز الجسم على التكيّف مع الظروف الجديدة بطريقة تجنّبه بذل الكثير من الجهد للحفاظ على حالة الاستتباب. سيصبح جسم الأشخاص الذين يبدؤون ممارسة الرياضة أكفأ في التعامل مع الارتفاع في درجة الحرارة الناجم عن هذا النشاط. تقول إميرسون أيضاً إنه بمرور الوقت، ستزداد معدلات التعرّق لتبريد الجسم بسرعة أكبر، وسيتغيّر تدفق الدم في الجلد وسينخفض الإجهاد القلبي الوعائي. وتفيد أيضاً بأن اعتياد الجسم على هذا التمرين والتكيّف مع الظروف الجديدة يستغرق 10-14 يوماً، ما سيحدد قيمة مستهدفة جديدة في آليات الاستتباب الداخلي.