أصيب توم باترسون بالمرض عندما كان يقضي عطلته في مصر، حيث وقع ضحية Acinetobacter baumannii، وهو نوع من البكتيريا يتسبب بالوفاة في أغلب الأحيان، ومقاوم لجميع المضادات الحيوية التي جربها الأطباء الذين كانوا يعالجونه. كان من المفترض أن يموت باترسون -هو بروفسور في الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا سان دييجو- ولكنه بقي حياً بفضل جرعات تجريبية من فيروسات قاتلة للبكتيريا باسم bacteriophages. غير أن هذه التجربة التي أوشك فيها على الموت بسبب بكتيريا شديدة المقاومة للمضادات الحيوية أصيب بها في بلاد دافئة، وهي كائنات أصابت الكثير من الجنود الجرحى في العراق والكويت، تثير تساؤلات مقلقة حول البكتيريا المقاومة للأدوية وعلاقتها بارتفاع حرارة الكوكب.
يقول روبرت سكولي، وهو أخصائي بالأمراض المعدية في جامعة كاليفورنيا سان دييجو، وأشرف على علاج باترسون: "يعود الكثيرون من رحلات إلى مناطق استوائية وغيرها من الأماكن الحارة، حيث بدأت تنتشر الكائنات المسببة للمرض والمقاومة للأدوية على نطاق واسع، ويلاقون صعوبة متزايدة في العثور على مضادات حيوية فعالة في صيدلياتنا ومراكزنا الصحية. إن رفع درجة حرارة الوسط المحيط سيؤدي بالتأكيد إلى تسريع عملية التطوير للبكتيريا وغيرها من الكائنات المسببة للمرض والتي يجب أن نتعايش معها".
يدرك الخبراء أن التغير المناخي أصبح يشكل تهديداً للصحة العامة في العالم، خصوصاً مع تزايد تعداد الحشرات الناقلة للأمراض مع ارتفاع الحرارة، مثل البعوض. ولكن ارتفاع الحرارة أيضاً يحفز نمو البكتيريا، ويزيد من قدرتها على التحول وتجنب الأدوية التي كانت تقتلها من قبل بسهولة. وعلى الرغم من أن مقاومة المضادات الحيوية تعزى بشكل كبير إلى المبالغة في وصفها للعلاج، يعتقد الخبراء الآن أن بعض العوامل البيئية الأخرى، بما فيها التغير المناخي، قد تكون أيضاً جزءاً من المشكلة.
يواجه العالم حالياً خطراً متصاعداً ومرعباً، يتمثل بالأمراض المعدية المقاومة لعدة أدوية، وقد أصبح علاج الكثير منها صعباً أو مستحيلاً. وتصف منظمة الصحة العالمية هذا الوضع بأنه "أحد أكبر الأخطار الحالية التي تهدد الصحة العالمية، والأمن الغذائي، والتنمية". يوجد في الولايات المتحدة أكثر من مليوني حالة و 23,000 وفاة سنوياً بسبب هذه الأمراض، وفقاً لمراكز السيطرة والوقاية الوبائية.
تقترح دراسة نشرت مؤخراً في مجلة Nature Climate Change أن الصلة بين التغير المناخي واشتداد مقاومة البكتيريا موجودة في الولايات المتحدة، خصوصاً في المناطق الجنوبية. فقد اكتشف أخصائيون بالأمراض الوبائية في مستشفى بوسطن للأطفال وجامعة تورونتو أن ارتفاع درجات الحرارة والكثافات السكانية على المستوى المحلي تتوافق مع ازدياد المقاومة للمضادات الحيوية في عدد من أنواع البكتيريا المعروفة.
يقول ديريك ماكفادن، باحث زميل في مستشفى بوسطن للأطفال والمؤلف الأساسي للدراسة: "حتى الآن، ركزت معظم الأبحاث حول تأثير المناخ على الأمراض المعدية على الأمراض المنقولة بكائنات ناقلة والأمراض الإسهالية. غير أن عملنا يقترح أن المناخ قد يؤثر على قدرة البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية. وإذا كان هذا صحيحاً، فيجب أن نأخذ المناخ بعين الاعتبار أثناء دراسة تغير هذه المقاومة مع الزمن، ومن المحتمل أننا لم نعط هذا التأثير حق قدره".
قام الباحثون في هذه الدراسة ببناء قاعدة بيانات كبيرة من المعلومات حول مقاومة المضادات الحيوية في الولايات المتحدة، وذلك لبكتيريا إيكولاي و K. pneumoniade و S. aureus، من مصادر متعددة، بما في ذلك معلومات من المشافي والمختبرات ومراقبة الأوبئة بين 2013 و 2016.
تضمنت قاعدة البيانات أكثر من 1.6 مليون بكتيريا من 602 سجلاً في 223 منشأة و 41 ولاية، من عينات معزولة ومأخوذة من أشخاص مصابين بأمراض مقاومة. ومن ثم قاموا بالمقارنة ما بين البيانات وخطوط العرض لإحداثياتها، إضافة إلى المتوسط (المعدل) والقيمة الوسطية (منتصف المجال) لدرجات الحرارة المحلية، ووجدوا أن ارتفاع متوسط درجة الحرارة الدنيا المحلية يتوافق بشكل كبير مع ازدياد المقاومة للمضادات الحيوية. وقد وجد الباحثون صلة ما بين ارتفاع متوسط درجة الحرارة الدنيا المحلية بمقدار 10 درجات مئوية، وازدياد مقاومة بعض الأنواع من إيكولاي و K. pneumoniade و S. aureus بنسبة 4.2% و 2.2% و 3.6% على الترتيب، وفقاً للدراسة.
وجد الباحثون أيضاً أن زيادة عدد السكان بمقدار 10,000 شخص في الميل المربع مرتبط بزيادة بمقدار 3% و 6% في مقاومة إيكولاي و K. pneumoniade، ما يشير إلى احتمال وجود تاثير للكثافة السكانية أيضاً.
يقول موريسيو سانتيلانا، المؤلف الأساسي المشارك في الدراسة وعضو هيئة تدريسية في برنامج المعلومات الصحية المحوسبة في مستشفى بوسطن للأطفال: "النمو السكاني، وارتفاع درجات الحرارة، وازدياد مقاومة المضادات الحيوية، ثلاثة ظواهر تحدث على كوكبنا حالياً بشكل مؤكد. ولكن حتى الآن، لا توجد الكثير من الفرضيات حول علاقتها ببعضها. يجب أن نستمر بجمع الفرق متعددة الاختصاصات لدراسة مقاومة المضادات الحيوية على ضوء التغيرات في الكثافة السكانية ودرجة الحرارة".
وجدت الدراسة أيضاً ارتفاعاً في معدلات وصف المضادات الحيوية للمرضى في المناطق التي تزداد فيها المقاومة للمضادات الحيوية.
على الرغم من أن الدراسة تقترح أن المشكلة تتركز في الجنوب، يحذر ماكفادن من أنه لا يوجد أي جزء من البلاد بمنأى عن الخطر، ويقول: "إذا كانت الحرارة من العوامل المساهمة في هذه المسألة، فهذا يعني أن التأثيرات قد تنتشر في كل مكان، خصوصاً في الأماكن التي يحتمل أن تتغير فيها الحرارة بشكل كبير مع مرور الزمن، أي مع الانتقال باتجاه الأقطاب".
يقول سكولي، والذي لم يشارك في الدراسة، أنه يمكن لكثير من العوامل البيولوجية أن تساهم في هذه الظاهرة: "مع تزايد درجات الحرارة، قد تزداد أعداد البكتيريا المنتشرة في البيئة، كما قد يزداد النقل الأفقي للجينات (أي بغير الانتقال الوراثي عبر السلالات) البكتيرية عالية المقاومة، كما أن التفاعلات مع الحيوانات، من وجهة نظر صحية، قد تتطور أيضاً".
ولكنه يضيف: "إن زيادة 10 درجات في الحرارة الدنيا تعتبر تغيراً كبيراً نسبياً في المناخ، لأنها تعني تقريباً زيادة 6 درجات في متوسط درجة الحرارة العالمية بحلول نهاية القرن. وهو مصدر تساؤل إضافي حول السبب الذي يدعو البعض للتقليل من شأن تأثير التغير المناخي الذي يعرض الكوكب للخطر". يدعو المؤلفون إلى إجراء المزيد من الأبحاث، كما يقول ماكفادن: "لقد عثرنا على ترابطات بين العوامل المختلفة، ويجب القيام بالمزيد من العمل لتأكيد اتساق هذه النتائج في المناطق والآليات المحتملة".
يشير جون براونشتاين، وهو المؤلف الأساسي المشارك الآخر في الدراسة، ومدير مجموعة الحوسبة للأمراض الوبائية في مستشفى بوسطن للأطفال، إلى أن تقديرات الصحة العامة تشير إلى تزايد خطير في مقاومة المضادات الحيوية في السنوات المقبلة، ويضيف: "تشير نتائجنا إلى أن التغير المناخي قد يكون سبباً في ظهور وتزايد المقاومة للمضادات الحيوية، ما يعني أن المستقبل أسوأ مما كنا نعتقد".