فلينت هي مدينة صغيرة، تقع في أقصى شمال الولايات المتحدة الاميركية، بولاية ميشيغان، تحيط بها البحيرات العظمى، وقد تكفلت إحدى هذه البحيرات بتأمين مياه الشرب لسكان المدينة البالغ عددهم 100 ألف نسمة، لكن في 25 أبريل 2014 تم تحويل مجرى الماء ليصبح من نهر فلينت، بما اعتبر في حينه توفيراً للنفقات، لتبدأ عندها القصة التي شغلت الدولة بأكملها لسنوات عدة، ولم تنته مفاعيلها حتى يومنا هذا.
أعلنت حالة الطوارئ الفيدرالية في المدينة مطلع سنة 2016، وذلك بسبب ما تبين من وجود كميات من الرصاص في مياه الشرب بالمدينة، وقد سجلت نسبة الرصاص بالعينات الخاضعة للتحليل قيمة بلغت 27 جزء بالمليار، مع العلم أن أعلى رقم وصلت إليه كانت 13000 جزء بالمليار وهي أسوأ عينة تمت دراستها. وللمقارنة فإن القوانين الاتحادية تعتبر النسب التي تزيد عن 15 جزء بالمليار هي نسب غير مقبولة، بينما يرى العلماء أن وصول النسبة لـ 5 أجزاء بالمليار هو أمر كافٍ للقلق بشأن مياه الشرب.
لم يستغرق الأمر طويلاً لمعرفة سبب تلوث المياه، فأنابيب المياه والتي هي أنابيب رصاصية، كانت السبب وراء هذه الكارثة. هذا ما يبدو عليه الأمر لأول وهلة، لكن في الواقع هناك سبب آخر يتعلق بدوائر اتخاذ القرار.
ففي واشنطن توصلت التقارير إلى أنه لا تأثير للرصاص المتسرب إلى الماء على الأطفال والرضع، وخلصت إلى أنه بإمكانهم شرب الماء دون خوف على صحتهم. لذلك فإن الجهات المسؤولة امتنعت عن استخدام المواد الكيميائية المانعة للتفكك والتي كانت كفيلة بمنع انتقال الرصاص من الأنابيب إلى الماء. وبسبب هذا التفكير البعيد عن العلم تفاقمت الكارثة.
لكن المفارقة هو أن الرصاص نفسه كان يحاول مساعدة السكان. حيث أثبتت الدراسات والتحاليل أن الرصاص الموجود بالأنابيب، عند تفاعله مع الماء المعالج، يتحول إلى ما يشبه الغشاء المبطن للأنبوب، والذي يمنع بدوره تسرب المزيد من الرصاص إلى الماء، لكن للأسف فإن يداً واحدة لا تصفق، فعدم تعاون الجهات المختصة لمعالجة الوضع، جعل الأمور تتأزم.
طبعاً تم إصدار تعليمات للأهالي بشرب المياه المعبأة أو المفلترة وبعدم استخدام مياه الشرب، ومع بداية العام الحالي ذكرت التقارير أن نسبة الرصاص قد انخفضت تحت الحد الخطر، لكن رغم ذلك لم يتم السماح للأهالي بالشرب من مياه النهر ريثما تتم عملية صيانة كافة الأنابيب، والتي من المتوقع انتهاؤها مع حلول سنة 2020.
في تلك المدينة الوادعة وفي أي مدينة تتعرض لحوادث مماثلة، لن تعود المياه لمجاريها بالمعنى الحرفي ما لم تعد المياه لمجاريها بين العلماء والسياسيين، فأي قطيعة مع العلم وأي تعنت بعيداً عن الاستئناس بآراء الخبراء، لن يقود إلا إلى الأسوأ وإلى الكوارث التي لا تحمد عقباها.