يستهلك النوم ساعاتٍ طويلة من أعمارنا. فبحسبة بسيطة، وباعتبار أن الشخص ينام 8 ساعات يومياً بشكل وسطي، سنجد أن الإنسان يقضي حوالي ثلث عمره نائماً. بناءً على ذلك، ومن وجهة نظر تطورية بحتة، قد يبدو النوم مضيعة للوقت، ولكن صموده لدى جميع الحيوانات على الأرض عبر سنوات طويلة جداً من الارتقاء والتطور يعني بأنه مهم جداً، أليس كذلك؟
لقد وجد العلماء بأن النوم يمارس تقريباً دوراً حيوياً في وظائف جميع الأعضاء في الجسم البشري. وبالمقابل، فإن ما يعتري الإنسان من مشاغل أو حالات مرضية أو شيخوخة يؤثر بشكل بالغ على عدد ساعات نومه. وهذا ما يقودنا إلى التساؤل: ما هو عدد ساعات النوم التي نحتاجها يومياً؟ وهل من الممكن تعويد الجسم على النوم لفترة أقل؟
لنتحدث في البداية عن ساعات النوم الثمانية التي يجري الحديث عنها بشكل مستمر. إن هذا الرقم لم يجرِ اختياره اعتباطياً، وإنما بناءً على دراساتٍ علمية مُحكمة، خلُصت إلى أن النوم لثمان ساعاتٍ يُشكل حاجةً فطريةً لكل إنسان بالغ. ففي إحدى تلك الدراسات، قام الباحثون بإجراء سلسلة من التجارب العلمية، التي تضمنت إدخال متطوعين إلى غرف مظلمة تماماً في أثناء الليل، ومنحهم الفرصة لكي يناموا لمدة تسع ساعات متواصلة بدون أي إزعاج أو مقاطعة. جرى تكرار ذلك بشكل يومي على مدى بضعة أسابيع، وحصلوا على نفس النتيجة لدى جميع المشاركين: حتى ولو أُعطي المشارك الفرصة للنوم لفترة أطول، فلن يقضي في النوم أكثر من ثمان ساعات بشكل وسطي.
وهذه الدراسة ليست الوحيدة التي تدعم فرضية النوم لثمان ساعات يومياً. فبالعودة إلى عام 1938، قام الباحث في مجال النوم ناثانيل كليتمان وأحد تلامذته بالعيش لمدة 32 يوماً في كهف الماموث بولاية كنتاكي الأميركية، أحد أطول وأعمق الكهوف المكتشفة حول العالم، حيث تنحجب عنه أشعة الشمس بشكل كلي. وعندما تفحصوا عدد ساعات نومهم الوسطية، وجدوا بأنهم كانوا ينامون لمدة تتراوح بين ثمان إلى ثمان ساعات ونصف في كل ليلة.
ولكن، ما الذي يمكن أن يحصل عند حرمان الشخص من النوم كلياً أو جزئياً؟ سوف يواجه تحديات كبيرة. ففي العام 2003، قام كل من ديفيد دينجيس وجريجوري بيلينكي، وكلاهما باحثان في مجال النوم بجامعة بنسلفانيا الأميركية ومعهد والتر ريد العسكري للبحوث، بإجراء دراستين بالغتي الأهمية حول عواقب الحرمان من النوم. وكان الهدف الرئيسي من أبحاثهما معرفة ما هو أقل عدد ساعات من النوم يمكن للإنسان الحصول عليه دون أن تتأثر مهاراته الذهنية سلباً بذلك.
اشتملت الدراستان على تجارب استمرت لمدة أسبوعين، حيث قام الباحثون بحرمان المتطوعين في الدراسة من النوم لفترات متفاوتة. وقبل البدء بالتجارب، سمحوا للمتطوعين بالنوم لثماني ساعات متواصلة، وأتبعوها بإجراء سلسلة من الاختبارات الإدراكية في صباح اليوم التالي، حيث قاموا بقياس أشياء مثل سرعة الاستجابة، وكيفية تفسيره النصوص المكتوبة، وعدد مرات الإغفاءات اللحظية (التي تدوم لثانية أو ثانيتين، ويُطلق عليها اسم النوم الأصغري)، وهو ما يُقدم فكرةً عن أداء الشخص الإدراكي في الحالة الطبيعية.
بعد ذلك، قام الباحثون بتوزيع المشاركين في أربع مجموعات: سمحوا لأفراد المجموعة الأولى بالنوم لثماني ساعات على مدار الأسبوعين التاليين، ولأفراد المجموعة الثانية بالنوم لمدة ست ساعات، ولأفراد المجموعة الثالثة بالنوم لمدة أربع ساعات، في حين لم يسمحوا لأفراد المجموعة الثالثة بالنوم لمدة ثلاث أيام متواصلة.
وبحسب ماثيو وولكر، مدير مختبر النوم والتصوير العصبي بجامعة كاليفورنيا الأميركية، فقد أظهرت نتائج الاختبار على المجموعة الأخيرة مدى تأثر الأداء الإدراكي عند الشخص بعد حرمانه من النوم ليوم كامل. وبحسب دينجيس وزملائه، فإن الحرمان من النوم لليلة كاملة يُعادل في تأثيره حالة السكر الناجمة عن تناول المشروبات.
وبخلاف أفراد المجموعة الأولى الذين لم يواجهوا أي تبدل في مهاراتهم الإدراكية طيلة فترة التجربة، فقد واجه أفراد المجموعتين الثانية والثالثة تأثيرات سلبية لا تقل كثيراً عن أفراد المجموعة الرابعة. فبعد عشرة أيام من النوم لمدة ست ساعات فقط، كان الخلل في المهارات الإدراكية لدى أفراد المجموعة الثانية مشابهاً للخلل المُلاحظ لدى أفراد المجموعة الرابعة بعد يوم من الحرمان من النوم. أما أفراد المجموعة الثالثة فقد تطلب الأمر ثلاث ليالٍ كي يصلوا إلى مستوى الخلل الإدراكي المُلاحظ لدى أفراد المجموعة الرابعة، أما بعد عشرة أيام فقد بلغ الخلل الإدراكي بهم مستوىً مماثلاً للحرمان من النوم بشكل مستمر لمدة يومين متواصلين. ومع مرور الأيام، لم يعتد الجسم على الحرمان من النوم، واستمرت الأضرار بالازدياد دون أن تصل إلى مستوى معين وتقف عنده. يقول وولكر: "عند النظر إلى الرسوم البيانية لنتائج التجربة، فلن تظهر أي نهاية في الأفق للأضرار الناجمة عن الحرمان من النوم، وهو أمر مرعب".
وعندما قام دينجيس بمقارنة نتائج دراسته مع نتائج الدراسة التي قام بها زميله وولتر رييد، والتي كانت مشابهة تماماً لها ولكن باستخدام عدد ساعات نوم فردية (7، 5، 3، 0) كانت النتائج متطابقة إلى حد بعيد. وحتى لدى أفراد المجموعة الذين ناموا لسبع ساعات (ما يعتبره البعض رفاهية) فقد لوحظت لديهم إغفاءات لحظية بمعدل يزيد بثلاثة أضعاف عن الأشخاص الذين ناموا لثماني ساعات بعد خمسة أيام من بدء التجربة.
إذن، ما هو عدد الساعات الذي يمكن التخلي عنه دون أن تتأثر المهارات الإدراكية لدى الشخص؟ إن تلك المدة لا تزيد عن ساعة واحدة، بل هي أقل من ذلك.
حسناً، يعني ذلك بأنه ينبغي علينا جميعاً النوم لثماني ساعات على الأقل يومياً، دون منح أي استثناء لأحد. ولكن، بما أننا جميعاً نعيش حياةً تعج بالمشاغل والأعمال، وخاصةً خارج أوقات الإجازة. فهل من الممكن التعويض عن العجز في ساعات النوم لاحقاً في نهاية الأسبوع، بحيث يصل مُعدل النوم الوسطي إلى ثماني ساعات يومياً؟ لقد طرح الباحثون نفس السؤال وحاولوا الإجابة عليه.
فبعد أن انتهت المرحلة الأولى من التجربة (مرحلة الحرمان من النوم) قام الباحثون بمنح المشاركين الفرصة لتعويض ساعات النوم الضائعة على مدى ثلاثة أيام، حيث سمحوا لهم بالنوم كيفما يشاؤون (من غير المفاجئ أن نعلم بأن معظمهم لم ينم لأكثر من ثماني ساعات). وبعد ثلاثة أيام، قام الباحثون بتكرار الاختبارات الإدراكية مرة ثانية على المشاركين. ولكن النتائج أشارت إلى أن المشاركين لم ينجحوا في استعادة النتائج التي حققوها في بداية الدراسة قبل التعرض إلى تلك الفترة الطويلة من الحرمان من النوم. بمعنى آخر، إذا كنت تتعرض للحرمان من النوم، أي أنك تنام بمعدل سبع ساعات أو أقل في الليلة الواحدة، فهذا يعني أنك بحاجة لأكثر من أسبوع كي تتمكن من استعادة مهاراتك الذهنية كما كانت، دون أن يتمكن أحد من الباحثين معرفة الفترة الحقيقية المطلوبة لاستعادتها.
يقول وولكر: "يعتقد الناس بأن النوم يمتلك تأثيراً تراكمياً مثل الرصيد المالي في البنك، بحيث يمكنك اقتراض ساعات نوم من ليلة وتعويضها في ليلة أخرى، ولكن نتائجنا تشير إلى أن الأمر ليس كذلك".
ويشرح وولكر ذلك بأن الدماغ لا يمتلك القدرة الكافية لاستعادة ما فقده دائماً. ثم يتساءل وولكر، لماذا لم تتطور لدى الإنسان القدرة على ذلك عبر القرون الطويلة، بحيث يمكننا تخزين ساعات النوم كما نُخزن الفائض من السعرات الحرارية بشكل دهون نستهلكها عند الشعور بالجوع؟ ولعل الإجابة عن ذلك تكون بسيطة: "إن البشر هم الجنس الحيواني الوحيد الذي يحرم نفسه من النوم بشكل طوعي". وبالتالي، لا حاجة لتطوير نظام لتخزين ساعات النوم في الدماغ لأن الحاجات المعيشية لا تتطلب ذلك ببساطة.
مما لا شك فيه بأن الكثيرين منكم يقرؤون هذا المقال بسخرية، ويتساءلون في أنفسهم: إذا كنا لا ننام سوى ست ساعات في الليلة، ولا نشعر بالتعب في اليوم التالي، فلم إضاعة الوقت في النوم لساعات أطول؟
لكي نجيب على هذا السؤال، يكفي أن نشير إلى أن دينجيس وزملاءه قاموا بسؤال أفراد المجموعة الثانية من المشاركين (الذين ناموا لست ساعات) بعد أول ليلة من التجربة عن مدى رضاهم عن أدائهم في اختبار المهارات الإدراكية اليومي، فأجابوا بأن أداءهم كان مرتفعاً أو ممتازاً. ولكن عند مقارنة نتائجهم مع أفراد المجموعة الأولى (الذين ناموا لثمان ساعات) فإن نتائج أفراد المجموعة الأولى كانت أفضل بشكل واضح.
يقول وولكر: "عندما ينام الإنسان لعدد ساعات أقل، فقد لا يدرك بعد استيقاظه بأنه يعاني من الأعراض السلبية للحرمان من النوم، مما قد يشجعه على تكرار السلوك، ويدفعه للاعتقاد بأن النوم لست ساعات كافٍ بالنسبة له". ويعتقد وولكر بأنه لا توجد طريقة لتدريب النفس على النوم لفترة أقل من المطلوب، ويقول بأنه من الممكن للشخص الاعتياد على تجنب التعب المرافق للحرمان من النوم، إلا أنه لن يتمكن من استعادة المهارات الإدراكية المفقودة نتيجة ذلك الحرمان، أو أن يُحقق نفس النتائج التي يمكن له تحقيقها بعد النوم لثماني ساعات.
ولعل ثمة خبراً ساراً فيما يتعلق بقيلولة الظهيرة، والتي تؤيدها العديد من الدراسات العلمية. فقد أجرى باحثون دراسة على مجتمعات لا تعرف الكهرباء نهائياً (كما في منطقة هادزا بتنزانيا)، وقد وجد الباحثون بأن الناس اعتادوا على النوم لست ساعات في الليل، وبضع ساعات أخرى في فترة الظهيرة، وخاصةً في فصل الصيف.
وبحسب وولكر، فإن السؤال الكبير ما إذا كان من الأفضل أن ينام الإنسان لثماني ساعات متواصلة، أم أن بإمكانه تجزئتها إلى دفعتين. وفي الحقيقة، فإن كل شخص يتعرض لفترات خمول بعد الظهيرة (خمول ما بعد تناول الطعام). وقد تمكن علماء الأحياء من قياس هذا التراجع الفيزيولوجي في مستوى التنبه لدى الإنسان من خلال قياس التغيرات في النظام الاستقلابي للجسم، بالإضافة إلى التغيرات في النشاط الدماغي الكهربائي، وزمن الاستجابة عند الشخص. ويعتقد الباحثون أنه من الممكن الاستفادة من قيلولة الظهيرة طالما أن جميع الناس يشعرون بمثل ذلك الهبوط في النشاط في فترة الظهيرة. يقول وولكر: "من المحتمل أن جميع الناس بحاجة للنوم بعد الظهيرة لتحسين أدائهم، على الرغم من أن الأبحاث المُجراة في هذا الصدد لا تزال غير كافية".
ولكن الأمر الأكيد حالياً أن تراجع عدد ساعات النوم في الليلة الواحدة يترافق بتراجع مناظر في المهارات الإدراكية عند الشخص في اليوم التالي، واليوم الذي يليه، وفي كل يوم بعد ذلك. إن الأمر بسيط للغاية!
يقول وولكر، إذا كنت ترغب بمعرفة كيف يمكن لحرمان ساعة واحدة من النوم أن يؤثر على أدائك الإدراكي، تذكر ما يحدث معك أو مع زملائك عند الانتقال من التوقيت الشتوي إلى التوقيت الصيفي في شهر مارس أو أبريل من كل عام، حيث يُحرم جميع الناس من النوم لساعة واحدة.
ولعل الشيء الأكثر أهمية الذي ينبغي تذكره في هذا الصدد، هو أنه عندما يُخبرك شخص ما بأن زحمة أعماله وكثرة المهام الملقاة على عاتقه هي ما يدفعه للنوم لخمس ساعات فقط، فقد يكون كلامه محض هراء. ولعل سبب كثرة مشاغله هو أنه لا ينام سوى لخمس ساعات، مما يؤثر في مهاراته الإدراكية، وينعكس بالتالي على الزمن المطلوب لإنجاز المهام المختلفة، فيبقى في حالة من العمل المستمر لإنجاز المهام المطلوبة منه.