تثير جائحات الأمراض الجديدة -كجائحة فيروس كورونا المستجد الذي ظهر مؤخراً في مقاطعة هوبي الصينية- الكثير من الاهتمام، وتحتل أخبارها صدارة العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام. في هذه الأثناء، يواجه الأميركيون أزمة صحية أخرى أبطأ لكنّها أكثر انتشاراً؛ وهي السمنة.
تعد نسبة 40% من الأميركيين تقريباً مُصابين بالسمنة. كما زادت في العقود الأخيرة معدلات السمنة لدى الأطفال، مما يعرّض الكثيرين لخطر الإصابة بأمراض القلب والسكري، وبعض أنواع السرطان. فحالة وفاة واحدة من بين 5 حالات لأشخاص تتراوح أعمارهم بين 40 - 85 عاماً؛ تكون نتيجة السمنة. تتوقّع دراسةٌ جديدة أن نصف البالغين في الولايات المتحدة سيعانون من السمنة بحلول عام 2030.
عادةً ما يتم التعامل مع هذه المشكلة على أنّها قضية مسؤولية شخصية، مع تقديم بعض النصائح مثل تناول الوجبات الصحية، وممارسة التمارين الرياضية بانتظام. يحتاج الناس في الولايات المتحدة إلى خفض استهلاكهم من السعرات الحرارية، خاصة الأطعمة التي تحتوي على نسبة عالية من السكر والدهون المشبعة، وزيادة ممارسة التمارين الرياضية، لكن ما يقرب من 80% من البالغين لا يلتزمون بالمبادئ التوجيهية المتعلّقة بالنشاط البدني. توصي هذه المبادئ بالقيام بنشاط بدني معتدل لمدة تتراوح بين ساعتين ونصف إلى 5 ساعة أسبوعياً.
لكّن البيئة المحيطة المليئة بالمباني والطرق والأرصفة والأماكن العامة، تلعب دوراً مهماً في الصحة البدنية. حيث يزعم الباحثون أن المدن التي تروّج لأنماط الحياة الكسولة، والوجبات غير الصحية تتسبب بزيادة معدلات السمنة بين السكّان. بصفتي باحثاً يركّز على القضايا الحضرية، يسعدني أن أرى مخططي المدن يعطون اهتماماً أكبر لمساعدة السكان على اتباع أنماط حياةٍ صحية، من خلال التصاميم العمرانية المبتكرة التي يقدمونها.
مدن سمينة
في الواقع، لا يشجع تصميم المدن الأميركية الحديث على ممارسة التمارين الرياضية، حيث تبرز على الساحة السيارات والمصاعد في المناطق الحضرية كآلاتٍ مخصصةٍ لحياةٍ أكثر رفاهية، وراحة للناس. من الواضح أنّ هذه الآلات توّفر فوائد كبيرة، لكن لها ضرر أيضاً على الصحة. حيث تظهر الدراسات الحديثة أن الزحف العمراني يشجّع على قيادة السيارات أكثر، ويرتبط بزيادة الوزن. يشير هذا الارتباط إلى أن تخطيط وتصميم المدن يمكن أن يعيق/أو يشجّع على اتخّاذ الناس أنماط حياةٍ صحيةٍ أكثر.
لنتخيل كيف سيكون شكل المدن التي تجعل سكّانها أكثر سمنة. من المرجّح أنها ستحتوي على القليل من متاجر الأطعمة الطازجة، والكثير من مطاعم الوجبات السريعة والجاهزة. بالتالي ستشجّع الناس على تناول الوجبات السريعة، كما أنّ تصميم شوارعها لا يشجّع على النشاط البدني، لذلك يستخدم السكّان السيارات أكثر بدلاً من المشي أو ركوب الدراجات. أي أنّها ستشبه المدن الأميركية التي ظهرت في خمسينيات القرن الماضي، والتي ركّزت في تصاميمها على استخدام السيارات.
في الحقيقة، المدن ليست مسؤولة عن انتشار السمنة، لكنها يمكن أن تجعله أسوأ من خلال التشجيع على أنماط حياة غير صحية. يؤكد خبراء الصحة أن الأمر ليس محصوراً بمدن الولايات المتحدة فقط، بل على مستوى العالم أيضاً. فمدن هذه الأيام تجعل الناس بدناء بالفعل.
إنشاء مدينة صحية
ما يزال التخطيط الحضري يركز إلى حدٍ كبير على حل المشاكل القديمة. بالطبع لا تزال المدن بحاجة إلى أخذ ممارسات الصحة العامة القياسية في عين الاعتبار، مثل فصل مرافق الصرف الصحي عن المنازل، وتقييد حركة الشاحنات الثقيلة عبر المناطق السكنية الكثيفة. ولكّن من المهم أيضاً التركيز على إنشاء مدنٍ أكثر صحّة، وما يزال النقاش دائراً حول هذا الموضوع بالفعل.
يُعد نقص الطعام الطازج من إحدى القضايا الهامة في العديد من الأحياء الفقيرة، حيث تُوصف المناطق التي تعاني من نقص الخيارات الغذائية الصحية بأنها «صحراء الطعام». تقوم حالياً المدن في جميع أنحاء البلاد بتعديل القوانين والضرائب من أجل تسهيل إنشاء -واستدامة- إنتاج وبيع الأطعمة المحلية بسيطة التكلفة، والمغذية الصحية بنفس الوقت.
كمثال على ذلك، تحد مدينة تولسا في ولاية أوكلاهوما الآن من تصاريح المتاجر التي لا توفر الطعام الطازج. وقد أقرت بعض الولايات الأخرى، مثل بوسطن وبوفالو ونيويورك وسياتل، قوانين جديدة تسمح بإقامة الحدائق والمزارع الحضرية.
وقد تبنّت العديد من المدن مجموعةً واسعة من الإستراتيجيات الغذائية. على سبيل المثال، قامت مدينة ديترويت بتعديل قوانين المناطق لتشجيع الحدائق الحضرية على بيع الطعام، كما باتت كليفلاند تسمح للسكّان حالياً بتربية الماشية الصغيرة والنحل. كما يوجد في لوس أنجلوس منطقةٌ يتم فيها التشجيع على الزراعة الحضرية، من خلال بيع أراضٍ مخصصة منخفضة التكاليف الضريبية.
كما تشمل البرامج الأخرى «متاجر السوبرماركت الافتراضية» في بالتيمور، حيث تتيح هذه المتاجر للناس شراء الأغذية الطازجة من خلال برنامج المساعدة الفيدرالي، والذي يوفر الطعام الصحي الملائم للأسر ذات الدخل المنخفض. أيضاً يشمل مركزاً في نيوأورليانز يعلّم الناس كيفية زراعة وطهي الطعام الصحي، ومشروعاً آخر على مستوى ولاية بنسلفانيا يستفيد من المساعدات العامّة والخاصة؛ في دعم مشاريع الأغذية الطازجة في الأحياء المنخفضة الدخل. وفي لويزفيل يُسمح للسكّان منخفضي الدخل باستصلاح أراضٍ بهدف زراعتها، وهي تنتج الآن الأطعمة الطازجة لذوي الدخل المحدود، حيث لا توفر لهم إمكانياتهم سوى خياراتٍ محدودة من الأغذية الصحية.
خطوات لتشجيع زيادة النشاط البدني
يهتم مخططو المدن بشكلٍ كبير على تشجيع النشاط البدني، من خلال تسهيل حركة الناس، وتشجيعهم على المشي وركوب الدراجات، واستخدام وسائل النقل العامّة بدلاً من استخدام السيارات الخاصة (الأجرة). حيث تُظهر الدراسات التي تتناول معدلات الأعمار؛ أن الناس يعيشون أطول فترة إذا كانوا يعيشون في البيئات يكون فيها النشاط البدني جزءاً من الحياة اليومية. لذا فإن توفير المزيد من المساحات للمشي، وطرق الدراجات المحمية بشكلٍ أفضل، والمزيد من المساحات الترفيهية؛ يعد خطواتٍ مهمة. ولكن حتى التغييرات الأصغر يمكن أن تكون فعالة أيضاً.
يمكن للمدن إغلاق الشوارع في عطلة نهاية الأسبوع لتشجيع الناس على الخروج والمشي مثلاً. يمكنها أيضاً توفير المزيد من المقاعد في الأماكن العامة كي يتمكّن الأشخاص من الاستراحة أثناء تجوالهم. بشكلٍ عام، فالأماكن العامة في المدن يمكن أن تحقق المساواة بين أفراد المجتمع، إذا استخدمت كأماكن لممارسة التمارين الرياضية، بدلاً من أن يضطر الناس للذهاب إلى الصالات الرياضية.
تُظهر الدراسات أنه عندما تُصمم المدن لتتيح إمكانية المشي وركوب الدراجات، وسهولة تحرك وسائل النقل العام، ووجود أماكن الترفيه الخضراء في الساحات العامة؛ فإنّ النشاط البدني يزداد في المجتمع بأكمله. على سبيل المثال، صُنفت مدينة مينيابوليس-سانت بول كأفضل مدينةٍ من ناحية صحّة السُكان، بعد أن أعلنت عن التزامها منذ عقدٍ من الزمن بتوسعة ممرات الدراجات، وتعديل الأرصفة لتصبح أكثر أماناً، وزراعة المزيد من الأشجار. شجّعت هذه التغييرات الناس هناك على المشي أكثر، والقيام بالمزيد من التمارين الرياضية.
المدن كآلات
سيكون إنشاء مدن صحية أكثر أمراً مكلفاً، لكن استطلاعاً حديثاً لرؤساء البلديات كشف أن الأغلبية تعتقد أن تصميم مدنهم يركّز أكثر على استخدام السيارات. يريد الكثير منهم الاستثمار أكثر في البنية التحتية المخصصة لركوب الدراجات والمنتزهات، والمجمعات الرياضية العامة. وعادة لا تكون هذه الميزات أولوية في المدن التي تتمتّع بمعدلاتٍ عالية من السمنة.
يعدّ نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة -الذي يركّز على الاختبارات وعلاج الأفراد بشكلٍ رئيسي بدلاً من تركيزه على الوقاية-، الأعلى تكلفةً على مستوى العالم، رغم أنه لم يحقق إلا مستوىً متواضع فيما يتعلّق بالعائد الصحي، ومتوسّط الأعمار مقارنةً بالدول الغنية المماثلة. يمكن أن يساعد دمج الأنظمة الغذائية الأفضل، وزيادة النشاط البدني في الحياة الحضرية اليومية على الارتقاء بصحة الناس، وبأقل تكلفة.