ماذا تعلّم أخصائيو الصحة النفسية من جائحة كورونا؟

7 دقائق
الصحة النفسية في كورونا

بدا جلياً منذ بدايات جائحة فيروس كورونا وما رافقها من إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي؛ أن أزمة الصحة النفسية العامة تلوح في الأفق. فبحلول أوائل أبريل/ نيسان، أظهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «كايزر» -الرائدة في مجال تحليل السياسات الصحية- أن ما يقرب من نصف الأميركيين كانوا بالفعل يشعرون بالضرر الذهني والعاطفي الناجم عن جائحة فيروس كورونا.

ووفقاً للبيانات الفيدرالية الحديثة، تضاعفت أعراض القلق والاكتئاب أكثر من 3 مرات بين البالغين في هذه الفترة، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، كما أظهرت البيانات تأثر النساء والمجتمعات أصحاب البشرة السمراء واللاتينية بشكلٍ حاد. كما تشير الأبحاث والتقارير الأخرى إلى أن ظروف الجائحة أدت إلى تفاقم الأعراض لدى من يعانون أصلاً من اضطرابات الصحة النفسية مثل؛ اضطراب الأكل واضطراب تعاطي المخدرات، واضطراب الوسواس القهري والفصام، والاضطراب ثنائي القطب وغيرها من الأمراض.

تقول الدكتورة «لين بوفكا»، أخصائية علم النفس في ولاية ماريلاند التي تعمل في تطوير الموارد والسياسات لدعم علماء النفس الممارسين؛ من خلالها موقعها كمديرة تنفيذية مشاركة في جمعية علم النفس الأميركية: «عانى الخبراء في الجمعية من الإجهاد الشديد في ظل الجائحة الحالية طبعاً. كان ذلك مصدر قلقٍ لدينا، إذ كيف يمكننا القيام بعملنا على أتم وجه في ظل هذه الضغوط؟».

ازداد عدد المحتاجين إلى الرعاية الصحية النفسية بسرعة، وبالتالي ازداد عدد الوصفات الطبية لمضادات الاكتئاب والأدوية المضادة للقلق والأرق بنسبة 21% بين فبراير/ شباط ومارس/ آذار مع بداية الجائحة، وفقاً لدورية «إيلمنتال» الطبية. كما أفاد موقع «كوارتز» أن حجم المكالمات التي تطلب المساعدة عبر الخط الساخن في حالات الكوارث شهد زيادة بنسبة 50% بين أبريل/ نيسان ومايو/ أيار، واستقبلت بعض المرافق الصحية في بعض الولايات التي ضربها الوباء بشدة أعداداً قياسية غير مسبوقة من المرضى.

كان على المهنيين الطبيين التكيّف للعمل من منازلهم أيضاً في ظل الظروف الاستثنائية غير المسبوقة في ظل الجائحة. يقول الدكتور «فيليب موسكين»، الطبيب النفسي بالمركز الطبي بجامعة كولومبيا: «لم أكن متأكداً حقاً منذ البداية مما يجب القيام به حيال المخاوف من لقاء المرضى، فأنا لم أخف سابقاً من رؤية المرضى وجهاً لوجه». تقول بوفكا: «مع ذلك، وبحلول شهر مايو/ أيار، تكيف غالبية أخصائيي الصحة النفسية مع رؤية المرضى عبر الفيديو والهاتف». وتضيف: «في الواقع، لا يمكن توفير جميع أشكال الرعاية الصحية النفسية افتراضياً عبر الإنترنت، ولكن في غضون شهر تقريباً، تبين أنه يمكن توفير بعض أشكال الدعم النفسي الافتراضي».

من خلال ممارسة مقابلة المرضى عن بعد التي جرى تبنيها حديثاً، يواصل الأطباء تقديم الكثير من النصائح نفسها التي بدأوا بتقديمها للمرضى منذ مارس/ آذار، مثل ضرورة الحصول على الهواء النقي مرة واحدة أو أكثر في اليوم، وحث المرضى على البقاء على تواصلٍ مع الآخرين عبر الإنترنت والالتزام بمسافة الأمان، وتناول الأطعمة الصحية وممارسة التمارين والنوم بشكلٍ جيد. ومع ذلك، على مدى الأشهر الستة الماضية، كافحت بعض العيادات لتلبية الطلب المتزايد للمراجعات في الوقت الذي تضاعف فيه عدد المرضى الذين يطلبون حجز المواعيد مرتين وحتى 3 مرات. تقول الدكتورة «ماري ألفورد»، أخصائية علم النفس في روكفيل بولاية ماريلاند: «ارتفع طلب حجز المواعيد كثيراً في الوقت الحالي. طاقتنا الاستيعابية لم تعد تحتمل، ولدينا قائمة انتظارٍ طويلة».

كيف يطبق أخصائيو الصحة النفسية النصائح التي يعطونها للمرضى على أنفسهم؟

مثلنا تماماً، كان على اختصاصيي الصحة النفسية التعامل مع ظروف الجائحة الحالية. تقول ألفورد: «علينا أن نطبّق على أنفسنا أيضاً ما ننصح الجميع بالقيام به». بالنسبة إلى ألفورد، كانت تقوم بذلك من خلال الاستماع إلى موسيقى الاسترخاء، والتحدث مع الزملاء أثناء التنزه بالخارج حول الحالات التي يعالجونها بدلاً من التحدث عبر الإنترنت. بينما كانت بوفكا تلعب الورق مع والدها عبر الهاتف، أما ماسكين فقد كان يقضي بعض الوقت في تعلّم ألعاب طي ورق «الأوريجامي». وقد تحول آخرون إلى إعداد قائمةٍ للقيام ببعض الأنشطة الترفيهية في أوقات راحتهم للتخفيف من التوتر والإرهاق لديهم.

تقول الدكتورة «نانسي زوكر»، أخصائية علم النفس ومديرة مركز ديوك لاضطرابات الأكل في دورهام: «رأيت الكثير من زملائي يشعرون بالإرهاق، لكنني ممتنة أيضاً لأن لدينا مجموعة من المهارات التي يمكن أن تساعد في تخفيف آلام الناس. لقد كانت معرفة أن الناس بحاجةٍ إلينا أثر كبير علينا في الواقع».

ومع سيرورة عام 2020، وبروز المشاكل المالية وحوادث العنف والمظاهرات التي عمت البلاد، وحدوث بعض الكوارث الطبيعية وقدوم موسم الانتخابات، يواجه العديد من المرضى وغير المرضى على حدٍ سواء زيادة كبيرة في ضغوط الحياة، وحالة عدم اليقين. تقول موسكين إن هذا النوع من الفوضى في حياتنا يؤثر على الصحة العقلية حتى عند أكثر الناس صحة.

تقول ألفورد: «إنه لأمر مخيف أن تشعر بأنه لا يمكن السيطرة على حالة الحزن واليأس والكآبة، ذلك أمر محبط حقاً. وتصيب تلك المشاعر المهنيين الطبيين أيضاً، فنحن نشعر بالإرهاق فعلاً بغض النظر عن معرفتنا كيف نعتني بصحتنا العقلية، ذلك لا يكفي في الواقع».

كيف يتفاعل الدماغ مع مشاكل الجائحة؟

يقوم الحصين (الهيبوثلاموس) في الدماغ -الذي يُعتبر بمثابة معالج الذاكرة الأساسي في الدماغ- بمقارنة جميع تجاربنا الجديدة بما رأيناه وعايشناه من قبل، ثم يقوم بعد ذلك يقوم بتشفير أو تخزين المدخلات الجديدة على أنها مألوفة أو غير مألوفة أو آمنة أو خطيرة، ثم تستجيب اللوزة الدماغية لهذه المدخلات الجديدة بتشكيل ردة فعل الهروب أو القتال -المرحلة الأولى لحالة التعوّد التي تنظّم استجابات الإجهاد- حسب المخاطر المُتصورة. يقول ماسكين: «تنشط هذه المنطقة في الدماغ، وترسل إشاراتٍ عصبية إلى أجزاء الدماغ الأخرى، مما يؤدي لإفراز سلسلة من النواقل العصبية والهرمونات التي تؤدّي بدورها لتسرّع أو قصر التنفّس وتشنّج العضلات، وعسر الهضم وتسرّع ضربات القلب، إلى درجةٍ قد تؤدي الجسم عندها. وإذا استمرت استجابة الضغط هذه طويلاً، يمكن أن تمتد آثارها السلبية على صحتنا النفسية وتسبب لنا القلق أو التهيج أو الاكتئاب أو قلة التركيز».

تقول بوفكا: «في الواقع، لا تتطلب معظم التهديدات التي نواجهها استجابة الهروب الجسدية، ولكن هذه هي الطريقة التي ينشط بها جسمنا. إذا أصبح التهديد المُتصور مزمناً، سيذهب جلّ تركيزنا عليه. بكلامٍ آخر، عندما نفتقد احتياجاتنا الأساسية مثل السلامة والصحة البدنية، قد يصبح تركيزنا صعباً على الاحتياجات ذات المستوى الأعلى مثل تحقيق الذات والعلاقات الاجتماعية التي تساعدنا في الحفاظ على صحتنا العقلية».

يقول «براتيك باهكار»، الأستاذ المساعد في الطب النفسي في كلية الطب بجامعة ييل: «أشعر اليوم بالقلق الشديد على الفئات الضعيفة، والمعرضة للخطر في المجتمع، مثل أصحاب البشرة السمراء، والأسر ذات الدخل المنخفض، والمهاجرون الجدد، وذوي الإعاقة وكبار السن، بالإضافة إلى من يعانون من التشرد والبطالة. في الواقع هم أقل قدرة على الحصول على الرعاية الصحية أو العلاج».

كيف يمكننا التكيف مع المستقبل إذاً؟

ما الذي يجب فعله إذاً حيال تدهور الصحة النفسية عام 2020؟

أول شيء يشير إليه العديد من العلماء والأخصائيين النفسيين؛ هو أنه من الصعب على المرء -في الظروف الحالية- إدراك هل سبب معاناته هي استجابةٍ عاطفية نموذجية (الحزن أو الغضب واليأس) نتيجة الاضطرابات المستمرة التي يواجهها، أم من مرضٍ نفسي وأنه بحاجةٍ إلى علاجٍ نوعي متخصص. يقول ماسكين: «أعتقد أن المزيد يعانون من القلق والاكتئاب في الوقت الحالي، ولكن هل هي حالات مرضية؟ هل هناك زيادة في الاضطرابات العقلية بالفعل؟ لا أعرف».

يقترح كل من بوفكا وألفورد، بالنسبة لأي شخصٍ يعاني من مشاعر اليأس والإحباط، الانتباه أولاً إلى كيفية تناول العقل للأحداث. فإذا كنت تتخيل أسوأ السيناريوهات وتشعر بالحزن العميق والتشتت حيال ذلك، فهذا في الواقع يدفع عقلك إلى العيش في كل المواقف المظلمة والمخيفة التي يمكنك استحضارها وتخيلها. قد يبدو ذلك طريقةً منطقية لتجنّب المفاجأت أو خيبات الأمل في المستقبل، لكن «التهويل» يمكن أن يستهلك طاقتنا العقلية بسرعة، ويديم شعورنا بالقلق، ويزيد شعورنا بعدم اليقين.

بدلاً من ذلك، توصي بوفكا بالعمل على تعديل مونولوجك الداخلي (حديث النفس) ليساعدك على الصبر والتعايش، وقبول الواقع أكثر. حيث تقول: «لا بأس بألّا تكون الأمور على ما يرام، ولكن لا بأس أيضاً في التفكير بانها يمكن أن تتغير للأفضل. ليس الهدف من ذلك أن يكون لدينا أفكار سعيدة طوال الوقت، إذ أن علينا تقبل فكرة أن عدم اليقين جزء من حياتنا اليومية الآن، وقد تبقى معنا لفترةٍ طويلة جداً أكثر مما نعتقد في الواقع، لكنها لن تستمر إلى الأبد. وبدلاً من مقاومة الشعور بعدم اليقين، حاول التركيز على الأشياء التي يمكنك السيطرة عليها. قد يساعدك التأمل أو كتابة يومياتك مثلاً على الإستماع أكثر إلى هذا المونولوج الداخلي وتعديل الطريقة التي تعالج بها ما يجري حولك من أحداث».

ويشير باهكار إلى أن تعديل روتيننا اليومي والقيام بأنشطةٍ معينة يمكن أن يقضي على مشاعر عدم اليقين. على سبيل المثال، ممارسة التمارين الرياضية والتحدّث مع الأصدقاء والعائلة، وتنظيم أوقات النوم والاستحمام اليومي، وقضاء بعض الوقت في الاسترخاء وغير ذلك من الأنشطة التي تساعدنا على التكيف مع المشاعر الخارجة عن سيطرتنا.

وفي هذه الأيام التي أصبح فيها الجلوس إلى الشاشة جزءاً من حياتنا وعملنا، يقترح أطباء آخرون البحث عن أنشطةٍ تمنح عينيك وأذنيك استراحة وتحفز الحواس الأخرى. على سبيل المثال، التمرين على لوح الموازنة على مدار اليوم، أو التسلية بألعاب العجين المنزلية، وحتى طهي الطعام بنفسك وتجربة توابل مختلفة. جميعها أنشطة تساعدك على تخفيف التوتر والاسترخاء، وتنشيط حواسك الأخرى. والأهم من ذلك، كما تقول زوكر وآخرون، تنمية الصبر لدينا. قد لا يكون المنزل مرتباً كما تريده، أو قد لا تكمل تحدي لوح الموازنة لمدة 30 يوماً أو لم تنجح في خبز العجين. قد تتغير معاملة رئيسك في العمل، وربما لم تعد ترى أصدقائك القدامى. يقول الخبراء أن تعلم التعايش مع الظروف الصعبة التي تُفرض علينا بدلاً من إجهاد نفسك في محاولة جعلها أفضل؛ سيجلب إلينا المزيد من السلام الداخلي في الواقع.
اقرأ أيضاً: هل تشعر بالكآبة؟ إليك 8 طرق تحسن مزاجك السيئ

ويقول الأطباء إن تجاوز هذه الأوقات الصعبة لا يتعلق بدرجة ضبط الفوضى الذهنية التي تمر بها بقدر ما يتعلق بالعثور على شيء كل يوم يجعلك تشعر بأنك حي ومفيد ومتفائل. تقول زوكر: «من السهل حقاً أن تسقط وسط ضخامة المشاكل التي نواجهها، لكني أعتقد أنه من الجيد العمل كي نشعر بالتحسن ولو قليلاً في كلّ مرة».

مع ذلك، فمن الطبيعي أن تشعر بأنك تتعامل مع ما لا طاقة لك بتحمله. تقول بوفكا: «سيشعر الكثير بذلك، ولكن إذا لم يكن ما تقوم به كافياً لإدارة مشاعرك وتجاوز هذه المحنة، ربما قد حان الوقت لاستشارة الاختصاصي». وتقول زوكر في هذا الصدد أيضاً: «لا ينبغي أن يكون اختبارك لنفسك بالسؤال «هل ما أزال أشعر بالضيق»، فقد يكون السؤال الأفضل «هل من المفيد أن أتحدّث إلى شخصٍ ما؟».

ونظراً لأن الناس أصبحوا أكثر انفتاحاً وتقبلاً لأفكار الآخرين في الوقت الحالي، بات الكثير منا يشعر بحريةٍ أكبر في التحدث بصراحة عن صحتهم العقلية. حيث تؤدي مشاركة تجاربنا مع الآخرين إلى زيادة تعاطفنا وتسامحنا مع بعضنا البعض، ويمكن أن تساعد في إزالة وصمة العار عن المرض العقلي، وبذلك يتخلّص المزيد منا من شعور الخجل من طلب مساعدة الأخصائي النفسي عند الحاجة إليها.

اقرأ أيضاً: هل تواجه صعوبة في الدراسة أثناء أزمة كورونا؟ إليك 6 نصائح لتحفيز نفسك

هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً

المحتوى محمي