اعتاد والداي على دعوة أصدقائهم وأقربائهم لتناول طعام الغداء في يوم العيد من كل عام. فيهرع أبي إلى حديقة المنزل الخلفية لنصب شواية كهربائية تكفي لشي خروف كامل، ثم نستقبل ضيوفنا بابتسامات حارة وقبلات على الوجنتين، ونستمتع بتناول ما لذ وطاب من طبخ أمي اللذيذ، ابتداءً من سمبوسات الجبنة والمقالي المتنوعة، مروراً بالمحاشي وأصناف الفتات، وانتهاءً بالخروف المشوي، الذي نتناوب جميعاً على التهامه دون أدنى شفقة. وبعد كل ذلك لا بد أن نختتم تلك الوليمة بأصناف الحلويات والكيك والشوكولا. فلا يأتي وقت الغروب إلا وقد بدأ النعاس بالتسلل إلى أجفاننا، مع شعور عارم بالسعادة والاسترخاء.
تتشابه هذه التقاليد في الكثير من البلدان والثقافات حول العالم، ومعظم الناس لا يفكرون في مصير تلك الأطعمة بعد التهامها، وكيف ستتعامل أجسامهم معها، وما هي الإنزيمات التي ستتولى هضمها، وما هي الهرمونات التي ستتحكم بكيمياء النعاس بعد تناول كل ذلك الطعام.
السعة الاستيعابية للمعدة لا تتجاوز 3 ليترات من الطعام كحد أقصى
إن قدرة الشخص على الاستمرار في تناول الطعام، على الرغم من شعوره بأن معدته على وشك الانفجار، تكشف الكثير من المعلومات حول فيزيولوجيا المعدة والأسس العصبية للشهية. لا يمكن للمعدة أن تتسع لأكثر من جالون واحد من الطعام (3.8 ليتر تقريباً) وهو ما يزيد بأضعاف عن الحجم الفارغ للمعدة. فعند التهام كميات إضافية من الطعام تبدأ المعدة بالتمدد والاتساع على حساب الأعضاء المجاورة في البطن، مما يزيد من الشعور بعدم الراحة وصعوبة تناول المزيد من الطعام. وفي النهاية تبدأ المعدة بدفع الحجاب الحاجز نحو الأعلى مما يجعل عملية التنفس أمراً صعباً.
ولكن الجسم يحاول السيطرة على الموقف قبل أن تصل الأمور إلى ذلك الحد. تكون المعدة مُبطنة بحزم عصبية تتحسس مستوى الشد والتمطط في جدارها، وتعمل بالتنسيق مع الهرمونات المعدية المعوية والهرمونات المحيطية لإرسال إشارات عصبية للدماغ تُعلمه بالوصول إلى درجة الشبع. فإذا تجاهل الشخص الإحساس بالشبع واستمر في تناول الطعام فسوف ترتفع وتيرة الإشارات العصبية تلك، إلى أن يحدث منعكس الإقياء أو يتوقف الشخص عن تناول الطعام.
ولكن، ما بين الإحساس بالشبع وحدوث منعكس الإقياء (خط الدفاع الأخير للجسم للتخلص من الطعام الفائض) هناك متسع للإفراط في تناول الطعام. إذ إنه من السهل تجاهل علامات الشبع الأولية، وإقناع النفس بوجود مكان للمزيد من الطعام وتجريب أصناف جديدة لم يتسع لها الصحن في المرة الأولى، فضلاً عن قناعة الكثيرين بأن "في المعدة خلوة التي لا تملؤها إلا الحلوى". وفي الحقيقة فإن التنوع الكبير للأصناف الغذائية في ولائم الأعياد يُعزز من رغبتنا بالإفراط في تناول الطعام.
يطلق العلماء على الإفراط في تناول الطعام بسبب تنوع أصنافه اسم "تأثير سورغاسبورد"، وقد جرى تعريفه لأول مرة في العام 1956 من قبل عالم الفيزيولوجيا الفرنسي جاك لوماجنن. ولدراسة تأثير تنوع أصناف الأطعمة على الشهية قام لوماجنن بعمل ولائم صغيرة لفئران التجارب. فعند تقديم كميات غير محدودة من صنف واحد من الطعام استمرت الفئران بالأكل إلى أن شعرت بالشبع، ثم توقفت. أما عند تقديم أربعة أصناف مختلفة من الأطعمة فقد ظهر تأثير سورغاسبورد، حيث التهمت الفئران ثلاثة أضعاف الكمية الاعتيادية، وتناولت كمية مُشبعة من كل صنف جديد.
ويشبه سلوك الإنسان سلوك الفئران إلى حدٍ ما: فعند تناول صنف واحد من الطعام، سيزداد شعورنا بالملل والشبع بعد كل لقمة نتناولها، وسيتراجع مستوى التلذذ بالطعام شيئاً فشيئاً. أما عند الذهاب إلى مطعم فاخر، وطلب قائمة طويلة من الأطعمة اللذيذة والشهية، فسوف نستمر بتناولها صنفاً تلو الآخر دون الشعر بالملل، وسيكون بوسعنا التهام كميات إضافية من الطعام تفوق درجة الشبع الاعتيادي.
وقد أعيد اكتشاف هذه الظاهرة في تجارب على البشر في ثمانينيات القرن الماضي. حيث قام باحثون بتقديم أربعة أصناف متنوعة من الطعام للمشاركين، وطلبوا منهم تقييم مستوى سعادتهم بالطعام في أربع مراحل مختلفة من تناوله. وجد الباحثون بأن المشاركين التهموا كميات تزيد بنسبة 44 في المائة عما تناولوه عند تقديم صنف واحد من الطعام، وأن سرورهم بالطعام وشهيّتهم له كانت تتجدد مع كل صنف جديد يُقدم لهم.
تتحكم مستويات الدهون والسكاكر في الدم بغريزة الجوع بشكل رئيسي، ويهدف تناول الطعام إلى إعادة ضبط مستويات هذه العناصر الغذائية بعد انخفاضها. فعندما ينخفض مستوى السكر في الدم يبدأ الشعور بالجوع، وتُخبر الهرمونات الدماغ بأن الوقت قد حان لتناول الطعام. وفي أثناء تناول الطعام يتسارع الشعور بالسعادة وتتمدد المعدة بالتزامن مع ذلك، ولذلك فإن الإقبال على الطعام، وخاصةً في ولائم الأعياد، يتأثر بقوى إرادية وإحساسات غريزية تتفوق على حاجات الاستقلاب وقدرة المعدة على الاستيعاب.
وفي النهاية، يجد الشخص نفسه وقد أفرط في تناول الطعام، وأهمل إشارات الجسم المتكررة بالتوقف عن الطعام بسبب الشبع، وخاصةً في أيام الأعياد. ولكن لماذا نشعر بعد ذلك بنعاس شديد ونبدأ بالتثاؤب؟
إن إحدى التفسيرات الرائجة لهذه الظاهرة هي ارتفاع مستوى السكر في الدم وإفراز الإنسولين بكميات عالية. فعلى سبيل المثال، عندما يتناول الأطفال كميات كبيرة من السكر في حفلات أعياد الميلاد، فسوف يصل السكر إلى مجرى الدم بسرعة كبيرة من خلال بطانة المعدة، ثم تمتص خلايا البنكرياس هذا السكر وتبدأ بتحويله إلى طاقة. وإن هذا التغير في مستويات الطاقة يُحفز سلسلة من التحولات الحيوية الكيميائية التي تنتهي بتحرير الإنسولين من البنكرياس، وهو الهرمون المسؤول عن ضبط الكيفية التي تتعامل بها خلايا وأنسجة الجسم مع السكر. يحدث كل ذلك في غضون دقائق معدودة. وحالما تسري جرعة الإنسولين في مجرى الدم تُحفز عضلات الجسم والخلايا الدهنية على تحويل السكر إلى طاقة. ولذلك نجد بأن الأطفال الذين تناولوا كميات كبيرة من السكر يقفزون ويلعبون وكأن الطاقة تتفجر فيهم. ولكن ذلك التفسير لم يجرِ إثباته من خلال دراسات علمية مزدوجة التعمية، إذ يمكن للأطفال أن يلعبوا بنشاط وحيوية سواءً تناولوا السكاكر أم لا.
يساعد الإنسولين أنسجة الجسم على امتصاص السكر بسرعة، إلا أن ذلك يجب ألا يُسبب انخفاض مستوى السكر إلى ما دون مستوى محدد. ولنأخذ بعين الاعتبار نظرية أخرى. كثيراً ما يُعد تناول لحوم الدجاج أو الديك الرومي مسؤولاً عن النعاس والنوم الذي يحصل بعد تناول وجباتها. وقد يُعزى ذلك إلى تحول الحمض الأميني تريبتوفان (الذي يوجد بمعدلات مرتفعة في الدجاج) إلى ميلاتونين، وهو الهرمون المنظم لدورات الاستيقاظ والنوم في الدماغ. يوجد التريبتوفان أيضاً في لحوم الأسماك والجبن والبيض. ولكن هذا الحمض الأميني وحده لا يكفي لتفسير ظاهرة النعاس بعد تناول الوجبات، إذ إن هنالك أصنافاً أخرى من الطعام لا تحتوي على كميات كافية من التريبتوفان ولكن تناولها يُسبب الشعور بالنعاس، مثل الديك الرومي.
ولعل التفسير الحقيقي يكون مزيجاً من جميع الأسباب المذكورة أعلاه، ولنوضح ذلك على الشكل التالي:
عند تناول كميات كبيرة من الطعام في ولائم الأعياد، سوف تُنبه النهايات العصبية الموجودة في جدار المعدة الدماغ إلى ضرورة كبح الرغبة بتناول المزيد من الطعام، كما ستُنبهه إلى ضرورة تحويل طاقة الجسم نحو عملية الهضم. من جهةٍ أخرى، فإن احتواء الوجبة الرئيسية على كميات كبيرة من الكربوهيدرات، سيؤدي إلى تحرير الإنسولين في مجرى الدم. وعلى الرغم من أن وظيفة الإنسولين الرئيسية هي تحريض الخلايا على امتصاص السكاكر، إلا أنه يُحفز أيضاً امتصاص بعض الحموض الأمينية، فيزداد تركيز التريبتوفان. وعندما تمتص خلايا الدماغ التريبتوفان فإنها تحوله بدايةً إلى سيروتونين، وهو ناقل عصبي يجعل الإنسان يشعر بالسعادة، ثم تحوله إلى ميلاتونين يُسبب الشعور بالنعاس.
وبعد تناول كل تلك الوجبات الدسمة، قد تتجدد الشهية للطعام عند رؤية أصناف الحلويات ويبحث الشخص عن مكان لها في معدته. وعند تناولها يحدث ارتفاع آخر في مستويات الإنسولين، ويُنتج الدماغ مزيداً من الميلاتونين، فلا يستطيع الشخص بعدها مقاومة الرغبة بالنوم، فتراه يبحث عن أقرب سرير ليستلقي عليه.
وعند الصباح، تكون المعدة قد أصبحت فارغة، وتعود مستويات الإنسولين إلى طبيعتها، ويصبح الشخص مستعداً لتكرار نفس الدورة من جديد.