ما هو المنشأ الحقيقي لروائح التعرق الكريهة؟

3 دقائق

تُعد رائحة التعرق الكريهة مُشكلة شائعةً جداً، تدفع الناس لإنفاق أموالٍ طائلة وبذل جهودٍ مضنية للتخلص من تلك الروائح الطبيعية غير المحببة. ولكن القليلين منا فقط يبذلون جهوداً لمعرفة الأسباب الحقيقية التي تقف وراء تلك الروائح، على الرغم من أن فهم آلية تشكل تلك الروائح هي الخطوة الأولى للوصول إلى مستقبلٍ خالٍ من الروائح الكريهة!

يقول جورج بريتي، اختصاصي الكيمياء العضوية بمركز مونل للحواس الكيميائية بمدينة فيلادلفيا الأمريكية: "إن مقدار وشدة الروائح التي تصدر عن الجسم تعتمد إلى حدٍ كبيرٍ على العوامل الجينية التي تتحكم بنوع وكم الجزيئات الكيميائية التي يُنتجها الجسم". من جهةٍ أخرى، يبدو أن الجسم يزخر بالعجائب المتعلقة برائحة التعرق، إذ إن كل منطقة من مناطق الجسم تُشكل وسطاً مُضيفاً لأنواع مُحددة من الميكروبات، وتُفرز بالتالي رائحةً خاصةً بها. فلإنتاج رائحة مُعينة، لا بد من اجتماع ميكروباتٍ خاصة ومُفرزاتٍ كيميائيةٍ محددة، وهو ما لا يتوفر إلا في مواقع مُعينة من الجسم.

يوجد في الجسم البشري نوعان من الغدد العرقية: ناتحة ومُفتَرَزة. تنتشر الغدد العرقية الناتحة في كلّ مكانٍ من الجسم، وتُفرز العَرق الذي يتكون من الماء بشكل رئيسي. ومن فوائد هذه الغدد تبريد الجسم عند التعرض للحرارة المرتفعة أو ممارسة نشاطات بدنية شاقة. أما الغدد العرقية المفتَرَزة فتتوضع في مواقع محددة من الجسم، مثل الإبطين، وهي لا تُساهم في تبريد الجسم بشكل حقيقي، وتطرح في الوقت ذاته جزيئات بروتينية تُفككها البكتريا الموجودة على بشرة الإبط فور الاحتكاك بها، مُسببة انبعاث الراحة الكريهة من الإبطين.

تتفاعل جميع الأحياء المجهرية التي تعيش على سطح الجلد مع الجسم بطريقة أو بأخرى، وجميعها قادرة على إطلاق روائح ما. أما عن سبب كون بعض الروائح أسوأ من بعضها الآخر، فيقول بريتي بأن ذلك يعود إلى تكيّف تلك العضويات الدقيقة مع البيئة التي تعيش فيها. وفي بعض الأحيان تكون تلك الروائح ذات أهداف فيزيولوجية محددة، فقد أظهرت دراسات عند الحيوانات بأن روائح الجسم تساعد في إثارة الرغبة الجنسية ودفع الكائنات للتزاوج والإنجاب، وبالتالي ولادة أفراد جدد يشكلون بيئة متجددة للميكروبات للعيش ضمنها.

وفي أيامنا هذه، لا يُوفّر الناس جهداً لإخفاء هذه الروائح أو التخلص منها، إلا أن معظم تلك الجهود لا تؤتي ثمارها كما يقول بريتي. إذ إن كمية البروتينات التي يطرحها الجسم والمسؤولة عن الرائحة الكريهة تعتمد بشكل كبير على جينات الشخص، الأمر الذي لا يمكن التحكم به. ومن جهةٍ أخرى، يُشير بريتي إلى أحد المفاهيم المغلوطة، وهي أن تناول المأكولات الحاوية على البصل أو الثوم أو البهارات يُحفز إنتاج المزيد من البروتينات ذات الرائحة النتنة، ولكن ذلك غير صحيح. والصواب هو أن ثمة أطعمة قد تزيد رائحة التعرق سوءاً، فإذا احتوى الطعام على مركبات قابلة للانحلال في الدهن، فسوف يجري طرحها مع قطرات التعرق، مما يُضيف "نكهة" الطعام، مثل الثوم أو البصل أو غيرها، إلى رائحة العرق المميزة!

ومن الحقائق المثيرة للاهتمام أيضاً، أن رائحة تعرّق الجسم في حالة الغضب تكون أقوى من رائحته في حالة الهدوء والسكينة، وذلك لأن الشدة النفسية تُحفّز عملية التعرّق في الغدد العرقية المُفتَرَزة المسؤولة عن طرح البروتينات كريهة الرائحة. ومن الحلول المتوفرة لهذه المشكلة، استخدام مزيلات الرائحة الكريهة (التي تخفيها بمواد عطرية) أو استخدام مُضادات التعرق (التي تحد من التعرق). كما ظهرت في الأسواق أنواع جديدة أطلق عليها اسم البروبيوتيك المزيل للرائحة، وهي مواد تعمل على تعزيز تواجد مستعمرات بكتيرية على حساب مستعمرات أخرى. إلا أنه لا يُنصح حالياً باستخدامها لعدم وجود دليل علمي يؤكد فعاليتها، وينبغي بالتالي الحذر من الادعاءات التي تُطلقها الشركات المنتجة لها. أما بريتي، فيقول بأن الطريقة الأمثل لتجنب انبعاث روائح التعرق الكريهة هي الاسترخاء وتجنب المواقف التي تُحفز الغدد المفتَرَزة على طرح المزيد من العرق.

والخلاصة الأهم التي ينبغي للقارئ معرفتها، هي أن الكثيرين قد يبالغون في تقدير سوء رائحة التعرق المنبعثة منهم. يقول بريتي: "لقد قابلت العديد من الأشخاص الذين يأتون لمختبرنا وهم يشتكون من رائحة كريهة جداً تنبعث من أجسادهم بشكل مستمر، وعندما نقيس شدة تلك الرائحة بشكل معياري، لا نجد أنها على تلك الدرجة من السوء".

يتجاهل الناس الكثير من الروائح التي يشمّونها على مدار اليوم، إلا أنه عند استنشاق رائحة تعرق كريهة عن قرب فقد يعتقدون بأنها أسوأ بكثير مما هي عليه، بسبب اقتراب الأنف منها. يقول بريتي: "من غير الشائع أن تقطع رائحة التعرق الكريهة مسافةً تزيد عن مترين أو ثلاثة أمتار إلا في حالات نادرة".
فإذا كنت تعتقد بأنك ابتليت بأسوأ رائحة تعرق في العالم، فقد لا يكون الأمر كذلك. كما إن هذه الرائحة الكريهة ليست رائحتك أنت، وإنما الرائحة الناجمة عن التفاعل الطبيعي بين البروتينات التي يطرحها جسمك والبكتريا غير الضارة الموجودة على سطح بشرتك. أما إذا كنت مُصرّاً على أن رائحة تعرقك هي الأسوأ على الإطلاق، فاطلب من أحد أصدقائك المقرّبين الوقوف على مسافة مترين أو ثلاثة أمتار منك واسأله إن كان يشمّ أية رائحة كريهة أو غريبة منك، وغالباً ما ستكون الإجابة لا!

المحتوى محمي