لم ينته موسم الإنفلونزا بعد من الناحية الفنية، ولكن نهايته هي الوقت المثالي للنظر إلى الوراء وطرح السؤال: إلى أي مدى كان سيئاً؟ يريد الجميع الإجابة على هذا السؤال عند فترة الذروة: هل هو أسوأ من العام الماضي؟ متى كانت آخر مرة كان الموسم فيها بهذا السوء؟ كيف يمكننا أن نكون أفضل في العام المقبل؟
هذه كلها أسئلة مهمة، ولكن من الصعب الإجابة عليها خلال موسم الإنفلونزا. إذ تتأخر جميع البيانات اللازمة لمدة أسبوعين، لأن على الأطباء أن يرسلوا تقارير عن حالات الإنفلونزا ومن ثم يقوم شخص ما بمعالجة وتحليل جميع المعلومات. وبحلول الوقت الذي تكتشف فيه مراكز السيطرة على الأمراض ذلك، فغالباً ما يكون الجميع قد تجاوزا الأمر.
ونظراً لأنه من المرجح أنك قد نسيت الآن مدى ذعرك من الإنفلونزا قبل بضعة أسابيع فقط، فإليك فكرة عما جعل هذا الموسم سيئاً للغاية وما الذي يمكننا فعله حياله في المستقبل:
لقد سمعنا عنه بشكل أكثر
عادةً ما ينتشر فيروس الإنفلونزا في بعض المناطق في جميع أنحاء البلاد، حيث يصيب بعض المدن والولايات في مراحل مختلفة على مدار عدة أسابيع. أما في هذا العام، فقد أصاب الجميع دفعة واحدة. يقول دان جيرنيجان - مدير قسم الإنفلونزا في مراكز السيطرة على الأمراض - بأن هذا الموسم بدا شديداً جداً، لأننا كنا أكثر وعياً به بكل بساطة. ويضيف: "حدث هذا الموسم بشكل أساسي في كل مكان في وقت واحد، ولذلك أصبح ظاهرة وطنية وليس محلية". ولا تصل العديد من المواسم إلى الذروة التي وصل إليها موسم 2017-2018، ولكن بدلاً من ذلك يكون هناك فترات أطول ترتفع فيها مستويات المرض.
قد لا يكون العدد الإجمالي لحالات دخول المستشفيات والوفيات مختلفاً إلى حد كبير، ولكن الذروة تصبح أكثر شدة عند حدوثها. فلم تكن وفيات الأطفال - وهي أحد المقاييس التي تستخدمها مراكز السيطرة على الأمراض لتتبع شدة الإنفلونزا - مختلفة تماماً عنها في موسم 2014-2015 (على الرغم من أننا سنحصل على المزيد من البيانات في الأسابيع المقبلة)، ولكن هذا العام لا يزال يبدو أكثر خطورة.
لذلك تم فحص المزيد من الناس
ويشير جيرنيجان أيضاً إلى أنه بسبب ظهور الإنفلونزا بشكل كبير في نشرات الأخبار، فقد عانت البلاد من ظاهرة أطلق عليها اسم "المرض قلقاً". فالناس مريضون بالفعل، لكنهم يذهبون إلى المستشفى أو العيادة على الأرجح لأنهم شاهدوا الكثير عن الإنفلونزا القاتلة هذا العام. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تضخيم عدد حالات دخول المستشفيات وأعداد الأمراض الشبيهة بالإنفلونزا، لأن المزيد من الناس يراجعون المستشفيات ممن كانوا سيتخلصون من الإنفلونزا في المنزل لولا ذلك. كما أن لدينا أيضاً المزيد من الفحوصات المتاحة، حيث أصبحت أكثر تقدماً وأسهل استخداماً في عيادة الطبيب، لذا ينتهي الأمر بتشخيص إصابة المزيد من الأشخاص بالإنفلونزا بشكل رسمي في المقام الأول.
هذه هي الطريقة التي نعرف من خلالها بأن فيروسات H3N2 – مثل فيروسات هذه السنة - تتميز بأنها فتاكة بشكل خاص
حتى في السنوات الخمس الماضية، تحسنت نوعية فحوصاتنا التشخيصية بشكل كبير. إذ يمكن لمراكز السيطرة على الأمراض أن تدرس مدى قدرة الحيوانات التي يتم تطعيمها باللقاحات على مواجهة الفيروس المنتشر (وهي الطريقة التقليدية لاختبار فعالية اللقاح)، وكذلك أيضاً التغيرات الجينية المحددة التي تتعرض لها البروتينات السطحية على الإنفلونزا.
بدون هذه التطورات، ربما لم نكن لندرك بأن فيروسات الإنفلونزا H3N2 تميل لأن تكون أكثر أذية للجهاز المناعي، إذ أن لقاحاتنا ضدها ليست بتلك الفعالية. ويشرح ذلك جيرنيجان بقوله: "عندما يتعين علينا أن نأخذ فيروس الإنفلونزا المنتشر والذي قد تكيّف مع الثدييات ونضعه في بيئة مناسبة للطيور، فيجب على الفيروس أن يتغير بعض الشيء لينمو في البيض". وقد تغيرت فيروسات H3N2 بمعظمها في البيض، وهذا هو السبب في ظهور حملة حديثة لاستخدام اللقاحات غير القائمة على البيض. تقوم بعض الشركات المصنعة بإعداد اللقاحات في الحيوانات أو خلايا الحشرات باستخدام طرق لا تحفز أنواع التغيرات الفيروسية التي نراها في البيض. وهناك بيانات أولية تشير إلى أن هذه الطرق البديلة تحسن من فعالية اللقاح، وخاصة بالنسبة لفيروسات H3N2.
لكنك تعلم كل هذا بالفعل. وإليك ما لا تعرفه على الأرجح:
فيروسات إنفلونزا H3N2 تعرف كيف تتجنب أجهزة المناعة واللقاحات
تتعرض جميع فيروسات الإنفلونزا للطفرات لتتجنب الدفاعات الطبيعية واللقاحات - وهذا هو السبب في إمكانية إصابتنا بالعدوى كل عام حتى لو حصلنا على لقاح الإنفلونزا – ولكن فيروسات H3N2 ابتكرت طريقة ذكية للقيام بذلك بشكل خاص، والتي ربما لم نكن لنعرفها لو لم يكن لدينا أساليب متطورة للتشخيص.
تحتوي فيروسات الإنفلونزا على بروتينين رئيسيين على سطحها، وهما الهيماغلوتينين والنيورامينيداز. كلاهما مهمان، ولكننا سنركز على الهيماغلوتينين، أو ما يرمز له بـ HA. ويفكر دان جيرنيجان في الأمر بهذه الطريقة: تخيل أن فيروس الإنفلونزا يحاول أن يعلق على جدران الجهاز التنفسي مثل لاصق الفيلكرو المكون من شريطين يلتصقان ببعضهما أحدهما شائك والآخر مشعر. إذ تكون بروتينات الهيماغلوتينين التي تلتصق بالفيروس بمثابة الجزء الشائك من الفيلكرو، والجزء المشعر بمثابة سطح الخلايا التنفسية. وتمتلك بروتينات الهيماغلوتينين جيباً صغيراً في الأعلى يسمح لها بالارتباط بالخلايا وحقن نفسها إلى الداخل واختطاف آلية تكاثر الحمض النووي في الجسم وإنشاء آلاف النسخ من جينوماتها.
تتعرف الخلايا المناعية في الغالب على فيروسات الإنفلونزا اعتماداً على تلك البروتينات. لكن بروتينات الهيماغلوتينين لسلالات H3N2 كانت تتطور باستمرار في محاولة للتهرب من جهاز المناعة. وأصبحت بروتينات الهيماغلوتينين أكثر تخصصاً، ولا تتطفل إلا على بروتينات محددة جداً على بعض الخلايا التنفسية المحددة، كما أنها تضيف أجزاء جديدة لزيادة إرباك الخلايا المناعية التي تحاول العثور على الإنفلونزا. بشكل أساسي، فإن العديد من بروتينات الهيماغلوتينين الموجودة على الجسيمات الفيروسية H3N2 تقوم الآن بإنتاج مظلة لجزيئات السكر الصغيرة، مما يحجب جيب الهيماغلوتينين الذي عادة ما يرتبط به جهاز المناعة. وفجأة، لا تستطيع الخلايا المناعية التعرف على الإنفلونزا كجسم أجنبي.
وهذا أمر سيئ بشكل خاص لأن مظلة السكر تتراجع عندما نزرع الفيروس في البيض لصنع اللقاحات. لسبب ما، فإن فيروس H3N2 لا يعدّ جيداً في البقاء في خلايا البيوض، لذا فإنه يفقد الميزة الوقائية قبل أن نحصل على فرصة لتطوير لقاح قادر على التعرف عليه. ويمكن لجسمك العثور على بروتينات أخرى يمكن من خلالها التعرف على الإنفلونزا، ولكن اللقاحات الحالية ذات مساعدة محدودة.
إلى الجانب المشرق، فقد يتمتع أطفال اليوم بحماية كبيرة ضد فيروس H3N2
وأشار جيرنيجان أيضاً إلى أن جزءاً مما يحدد كيفية استجابتنا لفيروس الإنفلونزا هو الفيروسات التي تصيبنا في مرحلة الطفولة المبكرة. ويقول: "كان كبار السن الذين تعرضوا لفيروس H1N1 في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين محميين نسبياً عندما عادت الفيروسات للظهور مرة أخرى". ولأنهم لم يتعرضوا لفيروس H3N2 الحديث نسبياً، فهم أكثر عرضة للإصابة.
لكن هذا يعني أن الأطفال في الوقت الحالي ربما يطورون مناعة ضد سلالات H3N2، لأن هذه هي السلالة المسيطرة في الآونة الأخيرة. ويعتقد جيرنيجان بأن الأطفال تحت عمر 9 سنوات قد يتمتعون بأفضل حماية، وإذا عادت هذه السلالة للظهور مرة أخرى عندما يكبرون، فإنهم سيصابون بمرض أقل من البالغين اليوم.
لكننا ما زلنا بحاجة إلى لقاحات أفضل
ولكن على المدى القريب، تبقى الحقيقة هي أننا بحاجة إلى لقاحات أفضل. وتعتبر الخيارات غير القائمة على البيض أمراً حاسماً، وفي حين أننا نعمل من أجل الحصول على لقاح شامل – ذلك الذي يمكنه أن يبقى فعالاً عاماً بعد عام - يقول جيرنيجان بأننا بحاجة إلى النظر في زيادة الفعالية بطرق إبداعية. فزيادة المستضدات – وهي مواد مناعية مساعدة على تعزيز الاستجابة المناعية للقاح - والتطوير الدقيق للفيروسات داخل اللقاحات لجعلها تبدو أكثر شبهاً بالأنواع المنتشرة هي كلها خيارات هامة يجب مراعاتها في المواسم القادمة.
لقد كان هذا الموسم من الإنفلونزا مؤذياً بشكل خاص – وذلك من نواح عديدة - ولكن علينا أن نتذكر بأن الناس يموتون بسبب الإنفلونزا كل عام. وعلينا أن ندفع من أجل إجراء التحسينات طوال الوقت، وليس فقط في السنوات التي نعتبر الإنفلونزا فيها بمثابة مشكلة خطيرة. فالإنفلونزا هي منافس شرس. يقول جيرنيجان: "يعيش هذا الفيروس معنا منذ فترة طويلة جداً. صحيح أن المنافسة محتدمة جداً، لكنني متفائل بأننا سنتمكن من إيجاد الحلول".