تبدو القهوة كأحد الألغاز التي طالما حيرت العلماء، شأنها في ذلك شأن الشوكولا، مع نقاشاتٍ محتدمةٍ دوماً حول مدى فائدتها أو ضررها. ولعل التغطيات الصحفية للدراسات العلمية على القهوة جعلت الناس يعتقدون بأن الباحثين يغيرون من نظرتهم تجاه القهوة كل بضعة سنين. إلا أنه وفي الحقيقة، فإن المجتمع الطبي بشكل عام قد أجمع في السنوات الأخيرة على أن القهوة هي شراب مفيد عموماً.
إذن، فالسؤال لا يكمن فيما إذا كانت القهوة مفيدةً أم لا، وإنما عن مدى فائدة القهوة. وإذا أردنا أن نجيب على هذا التساؤل من خلال الدراسة الحديثة التي جرى نشرها يوم الإثنين الماضي في مجلة حوليات الطب الباطني، فإن الإجابة ببساطة: ليس إلى ذلك الحد.
نعم، لقد أشارت العديد من الأبحاث إلى أ، القهوة قد تساعد على الحد من خطر سرطان الكبد، وقد تقي من عدد من الأمراض الهضمية، وقد تساعد على مقاومة بعض الأمراض القلبية الوعائية. وبالمجمل، قد يعيش شاربو القهوة لفترة أطول. إلا أننا نتحدث في جميع ما سبق عن علاقة ارتباط وليس علاقة سبب ونتيجة. أي إننا لا نعلم ما إذا كانت القهوة هي السبب المباشر لتلك الفوائد، أم هو سبب آخر مرتبط بشرب القهوة. فعلى سبيل المثال، يشترك مدمنو القهوة في العديد من الخصائص والسمات التي قد تُعزز من صحتهم والتي قد يكون أحدها المسؤول المباشرة عن الفائدة المعنية، وليست القهوة بحد ذاتها. ومن جهة أخرى، فإن هامش الفائدة المسجل ضئيل للغاية، ولا يستدعي كل ذلك الحماس.
ولنفترض لبرهة قصيرة بأن القهوة مسؤولة بشكل مباشر عن كل تلك الفوائد، والذي يعني بأن الشخص سوف يعيش لعمر أطول إذا كان من مدمني القهوة. فسيكون السؤال التالي هو: ما المدى الحقيقي لتلك الفائدة؟
نبحث في جميع الدراسات الصحية عن عامل يُطلق عليه اسم نسبة الخطر، والذي يُعد أساسياً لفهم مثل هذه الدراسات. ولكن للأسف، قلما تأتي الأخبار الصحفية على ذكر هذا العامل في تقاريرها، على الرغم من أهميته لفهم الدراسة ونتائجها.
عند إيراد كافة الأرقام التي خلُصت إليها الدراسات، فقد تبدو نتائجها أقل أهمية مما يحاول الإعلام إبرازه
عند مقارنة الأشخاص الذين يشربون القهوة مع الأشخاص الذين لا يشربونها، فهل ستكون نسبة خطر الوفاة أعلى عند الذين لا يشربون القهوة؟ الجواب على ذلك هو: إذا كانت "نسبة الخطر" أقل من القيمة 1 فسيعني ذلك بأن شاربي القهوة يواجهون خطراً أقل للوفاة (ضمن فترة الدراسة). أما إذا كانت "نسبة الخطر" أعلى من القيمة 1 فسيعني ذلك بأن شاربي القهوة يواجهون خطراً أعلى للوفاة. وكلما كانت نسبة الخطر أبعد عن الرقم 1 كلما كان التأثير أكبر. وكما هو الحال في أي عملية حسابية إحصائية، فيمكننا تقدير نسبة الخطأ في تلك العملية. يُطلق على نسبة الخطأ تلك "مدى الثقة"، وتعني أننا متأكدين بنسبة 95% من أن نسبة الخطر تبلغ رقماً ما ضمن مدى معين يُحيط بالقيمة الناتجة، دون أن نكون قادرين على تحديد الرقم بالتحديد. فعلى سبيل المثال، إذا بلغت نسبة الخطر 0.9 وكان مجال الخطأ في النتيجة يتراوح بين 0.8 و 1.0، فيعني ذلك بأن التأثير قد يكون غير قابل للقياس، وقد يكون معدوماً تماماً (لا فرق بين شاربي القهوة وغير شاربي القهوة) في حال كانت نسبة الخطر الحقيقية تساوي 1.0.
قلّما تأتي المقالات الصحفية حول الدراسات العلمية على مفهوم نسبة الخطر في نتائج الدراسة، وخاصةً عند الحديث عن التأثيرات الخارقة لبعض الأطعمة، وذلك لأن نسبة الخطر قد تكشف مدى ضآلة التأثير المعني، ما قد يُفقد الخبر بريقه وجاذبيته للقراءة. نعم، يمكن أن نستنتج من دراسة معينة بأن القهوة تساعد على الحد من خطر الوفاة إذا كانت نسبة الخطر مُعتبرة من الناحية الإحصائية. ولكن قد يكون من غير المثير أبداً معرفة أن نسبة الخطر بلغت 0.97 وأن مدى الثقة يتراوح بين 0.96-0.98. من الناحية النظرية فهذا أقل من الرقم 1، ما يعني بأن تناول القهوة يرتبط بتراجع خطر الوفاة، ولكن بنسبة لا تزيد عن 2 في المائة.
نتائج الدراسة الجديدة ليست مثيرة كما صورتها عناوين بعض الصحف
على الرغم من أن الدراسة الأخيرة تعج بالعديد من نسب الخطر ذات التأثير الضئيل، إلا أن الأمراض الهضمية وسرطان الكبد كانت استثناءً لذلك، ما يفسر إبرازها في عناوين الصحف والأخبار. وما المانع، من العظيم أن نعلم بأن القهوة تترك تأثيراً إيجابياً على الصحة. فبالنسبة لسرطان الكبد، بلغت قيمة نسبة الخطر 0.56 عند المدمنين على تناول القهوة، مع مدى ثقة يتراوح بين 0.41-0.77، وكذلك الأمر بالنسبة للوقاية من الأمراض الهضمية. ولكن السؤال، كم هي نسبة الأشخاص الذين يُصابون بأمراض هضمية أو بسرطان الكبد؟ إنها أمراض نادرة بشكل عام، ولا تُعد أسباباً شائعة للوفاة تستدعي القلق. ولمن يخشى الإصابة بسرطان الكبد، فمن الأفضل له الامتناع عن تناول المشروبات الكحولية بدل الإقبال على تناوا القهوة بشراهة.
وبالمناسبة، يتمتع الشاي بالعديد من الفوائد المشابهة لفوائد القهوة. إذن، مهما كان نوع الشراب الذي تحتسيه في الصباح، فغالباً ما ستحصل على نفس الفائدة. فقط تذكر ألا تُضيف السكر أو الكريمة إلى القهوة أو الشاي أو أي مشروب آخر، حيث إن المخاطر المرتبطة مع تلك الإضافة تفوق أي فائدة صغيرة قد تجنيها من الشراب نفسه.