في عام 1872، شرح تشارلز داروين شعور القرف للمرة الأولى في كتابهِ «التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان» بأنه «شعورٌ ذو صفةٍ متميزة ... وله علاقةٌ بحاسة التذوق؛ هو ببساطة شيءٌ منافٍ للذوق». وأشار عالمي النفس «بول إيكمان» و«والاس ڨي فريزين» في دراسةٍ نُشرت عام «1971»، أن شعور القرف هو أحد المشاعر الستة الأساسية التي يتشارك العالم أجمعه في تعبير الوجه نفسه للإفصاح عنها. ورغم حدته وتأثيره بشكلٍ خفيّ في دوافعنا وحيواتنا عموماً، إلا أن الدراسات التي تناولته كانت قليلة على خلاف الحب أو الغضب مثلاً.
غريزةٌ تقودكَ للنجاة
من اللافت للانتباه كيف يُستثار فينا هذا الشعور تلقائياً فور التعرض لأي شيءٍ غريب سواءً في رائحته أو شكله أو طبيعته. تُقرفنا الأشياء ذاتها تقريباً؛ ابتداءً بالفضلات والدم والطعام الفاسد والحشرات ووصولاً إلى الجرائم. تُشير مديرة «مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة»، «ڨاليري كورتيس»، في كتابها «لا تنظر، ولا تلمس، ولا تأكل: العلم وراء الاشمئزاز»، إلى أنه بالرغم من تنوع الأشياء المُقرفة في محيطنا، فإن جذورها تمتد لأصلٍ تطوري واحد.
هدف المخلوقات الأول هو النجاة، يفر الإنسان عند رؤية أي مفترس بدافع الخوف واستشعار الخطر والرغبة الجامحة للبقاء على قيد الحياة، لكن ما قد يفتكُ به لن يكون بالضرورة نمراً أو منحدراً حاداً، بل ميكروب أو جرثومة صغيرة لا تُرى بالعين المُجردة، هنا يلعب القرف دوره في إبقاء الإنسان بعيداً عن ما يقرفه ويشمئزُ منه، بكلماتٍ آخرى، ما يستشعر أنه قد يُمرضه.
من هنا أتت كورتيس بـ«نظرية تلافي الطُفيليات». توضحُ فيها أن ما ساعد أجدادنا في الانتصار في معركة البقاء للأصلح هو غريزة القرف؛ تجنبوا الأمراض والعاهات والموت، فعاشوا أطول وأنجبوا أطفالاً أصحاء. تقارن كورتيس بين رد الفعل التطوري لشعور القلق وشعور الخوف، كلاهما يدفعان الإنسان ليهرب أو يتجنب الشيء المقرف أو المُخيف. يعني أن غرض القرف في الأساس هو دفعكَ لتجنب الأشياء التي لا يجب عليك لمسها بشكلٍ مباشر بسبب خطورتها صحياً.
بين الوراثة والتطور الثقافي؟
على الناحية الأخرى، يُعارض بول روزين، أستاذ علم النفس بجامعة بنسيلفانيا، هذه النظرية، متسائلاً عن مدى تماسك نظرية أصل القرف التطوري. إن كان شعوراً تطورياً، فلماذا لا يتزاحم الناس لغسل أيديهم للتخلص من تلوث الميكروبات؟ لماذا يندفع الطفل ليأكل من الأرض، لماذا العطس والسعال ليسا مُقرفين مع أنهما مصدرين أساسين في نقل وانتشار العدوى والأمراض بين البشر؟ تقف كل هذه الأسئلة أمام النظرية التطورية لهذا الشعور، ويرجح أنه تطوراً ثقافياً.
بالرغم من أن القرف يُمثل جزءاً من الجهاز المناعي السلوكي، فإنه لا يتوغل فينا فوّر ولادتنا. يتعلم الطفل من تعابير وجوه عائلته ما يُلمس وما يُأكل وما يجدر الابتعاد عنه. ويطوّر الطفل شعوراً بالقرف ما بين الرابعة والثامنة من عمره، يُظهر بالطبع رفضا أولياً عند تذوقه أشياء لا تروقه، لكنه ينفر ولا يشمئز منها. ويُشير عالم النفس، بول إيكمان، أن السبب على الأرجح هو افتقار الأطفال للقدرة المعرفية اللازمة لتمييز صور معينة من القرف يُميزها البالغون فوراً، لذا فهم أكثر انفتاحاً على تذوق وتجربة معظم الأشياء المُحيطة بهم.
مؤسسٌ للأخلاق أم هادمٌ لها؟
مثلما يضع القرف حداً بين حاجتنا للغذاء والسموم، فهو أيضاً يضع حداً بين الحاجة للتواصل والاختلاط الإنساني و الأمراض المعدية، فتنشأ الأخلاقيات والآداب السلوكية العامة. لكن له أثرٌ سلبيٌ أيضاً؛ في اللحظة التي يشمئز فيها شخصٌ من شخصٍ آخر، تنشأ عواقب وخيمة لشعور القرف.
يقول عالم النفس والعلوم المعرفية، «بول بلوم» في محاضرة عن أخلاقيات الحياة بجامعة ييل: «تُظهر كل إبادة جماعية نوعاً من أنواع الاشمئزاز والكراهية نحو الفئة المُبادة... وهناك علاقة وطيدة بين الاشمئزاز من شخصٍ ما والرغبة في جعله يعاني».
ربما يؤدي بنا شعور القرف إلى قناعاتٍ مختلفة، وربما تُقرفكَ أشياء دون سببٍ منطقي، وربما تجد ما تحبه أنت مُقرفاً لشخصٍ آخر. لذا فإن الشعور بالقرف في حد ذاته شعورٌ مرواغٌ ويصعب تعريف حقيقته الأساسية، لكن ربما ينقذكَ يوماً ما بلا وعيٍ منكَ ولا إرادة.