في بعض الأحيان عندما تنتابنا الرغبة في البكاء، نحاول جاهدين إخفاء دموعنا، فالدمع يفضح صاحبه، كما اعتدنا أن نسمع. عيون بادية عليها الاحمرار وصوت مخنوق متحشرج؛ علامات تخبرك بسهولة على بكاء الشخص الذي يقف أمامك.
لا يفرق البكاء بين النساء والرجال، الكل يبكي حين يتعرض لمواقف مختلفة تمر عليهم في الحياة. دموعنا ما هي إلا مزيج معقد من الزيوت الدهنية والماء والمخاط، وأكثر من 1500 نوع من البروتينات المختلفة التي تحافظ على سطح العين ناعمة ومحمية من أي مادة غير مرغوبة فيها، مثل الأتربة والأدخنة ومسببات الأمراض المعدية. لكن ليست كل الدموع سواء. فالإنسان لديه 3 أنواع من الدموع: الدموع الأساسية، والدموع الانعكاسية أو اللاإرادية، والدموع العاطفية أو النفسية.
تفرز القنوات المسيلة للدموع؛ الدموع الأساسية الغنية بالبروتين والمضادة للجراثيم في كل مرة نغلق فيها أعيننا، لتحمي العين من الجفاف، وتبقي عليها رطبة. بينما الدموع اللا إرادية هي التي تنتج عن تهيج العين بسبب مؤثرات خارجية، مثل الهواء، أو التراب، أو الدخان، أو تقطيع البصل وتقشيره.
تفرز العين الدموع اللا إرادية كرد فعل للتخلص من هذه المواد المهيجة للعين. أما النوع الثالث والأخير هو الدموع العاطفية، التي ينتجها الجسم نتيجة التعرض لمشاعر قوية، مثل الحزن والإحباط، وربما السعادة. وهي ما سنتحدث عنها اليوم.
ما الذي يحدث عندما نتعرض لموقف يدفعنا للبكاء؟
عندما تسيطر علينا مشاعر قوية من الغضب أو الحزن أو التوتر، يشعر الجسم بأنه معرض لخطر ما. في هذه المواقف، تنشط منطقة اللوزة الدماغية في المخ، وهي المسؤولة عن استجابتنا العاطفية تجاه ما حولنا، وترسل بدورها إشارة إلى منطقة ما تحت المهاد، المسؤولة عن تنظيم استجاباتنا العاطفية، وإفراز الهرمونات. تحت وطأة هذه المشاعر القوية تقوم منطقة ما تحت المهاد عبر أحد الناقلات العصبية بتحفيز النظام الدمعي، وإرسال إشارات للغدد الدمعية لإنتاج الدموع.
تتصل كذلك منطقة ما تحت المهاد بجهازنا العصبي اللاإرادي المسؤول عن الوظائف التي لا يمكن للإنسان التحكم بها، مثل التنفس والهضم والجوع والبكاء. ولأن مشاعرنا القوية يترجمها جسدنا كحالة خطر يتعرض لها، يبدأ جهازنا العصبي اللاإرادي بتنشيط الجهاز السمبثاوي، وهو جزء من الجهاز العصبي اللاإرادي، والمسؤول عن «المواجهة أو الهروب» في الجسم لدى مواجهة الخطر أو المواقف الصعبة.
فينتج منه مصاحبة عدة أعراض أخرى للبكاء مثل التعرق، واحتمالية ارتفاع معدل ضربات القلب، وتلاحق الأنفاس، وربما الشعور باختناق الصوت، وحشرجته، والشعور بانسداد الحلق؛ كما توضح «راي تشان»، طبيبة العيون في مستشفى تكساس أرلينغتون التذكاري للصحة.
هل للبكاء فوائد جسدية ونفسية؟
عادةً ما يشعر الكثيرون بالحرج من البكاء أمام الآخرين، لأنهم يرونه إشارة على الضعف والهشاشة. في مقابل آخرين يرون أن البكاء مصدر للراحة وتنفيس عن المشاعر السلبية التي يقعون تحت وطأة ضغطها. قد يكون للبكاء عدة فوائد نفسية وجسدية، منها:
- المساعدة على تهدئة النفس من خلال تنظيم مشاعرك والسيطرة عليها، وتقليل شعورك بالمحنة، وحصولك على بعض الهدوء الشخصي. في دراسة أجريت عام 2014، أظهرت النتائج أن البكاء يساعد على تنشط الجهاز السمبثاوي الذي يساعد على الاسترخاء، وعودة حالتنا المزاجية لوضعها الطبيعي. مع ذلك، أشارت نتائج الدراسة أن تأثير البكاء يختلف من شخصٍ إلى آخر وفقاً لعدة عوامل، منها الاختلافات الفردية بين الأشخاص، والسبب الذي دفع للبكاء وفعل البكاء نفسه، وردود أفعال الآخرين.
- الحصول على دعم الآخرين. إلى الآن لم يتوصل العلماء بشكلٍ قاطع للسبب الذي يدفع جسدنا إلى البكاء، واقترحوا أنه ربما يكون إشارة يرسلها الجسم طلباً للمساعدة من الآخرين، والحصول على دعمهم العاطفي. في دراسة أجريت عام 2016، وجدت أن البكاء لدى من يرونه أمر صحي سلوك تعلقي (من التعلق بالآخرين) يحشد دعم الآخرين في المواقف الصعبة المختلفة، وهو ما يعرف بالمنفعة الاجتماعية. لكن يظل البعض يرون أنه لا يمكنهم السيطرة عليه حتى وإن كان هذا السلوك صحياً.
- محاربة البكتيريا والميكروبات. يساعد البكاء على قتل البكتيريا والحفاظ على نظافة العينين حيث تحتوي الدموع على سائل يعرف بـ «الليزوزيم». في دراسة أجريت عام 2011، أظهرت النتائج أن الليزوزيم له خصائص قوية مضادة للميكروبات، حتى أنه يمكن أن يساعد في تقليل المخاطر الناتجة عن الحروب البيولوجية، التي يتم فيها إطلاق الجراثيم والبكتريا والفيروسات عن عمد، لنشر أمراضٍ مثل: الجمرة الخبيثة والطاعون والجدري وغيرها.
- تحسين الرؤية: تساعد الدموع الأساسية، التي يتم إطلاقها في كل مرة تغمض فيها على إبقاء العينين رطبة ومنعها من الجفاف. كما يوضح المعهد الوطني للعيون، أن ترطيب العينين بواسطة الدموع الأساسية يساعد الناس على الحصول على رؤية أكثر وضوحاً. فعند جفاف العينين يمكن أن تصبح الرؤية أكثر ضبابية.
أدلة غير كافية
على جانبٍ آخر، تنتشر عدة فوائد أخرى للبكاء، لكنها ما زالت تحتاج إلى المزيد من الدراسة وإجراء الأبحاث لتأكيدها. من أشهر هذه الفوائد المزعومة إمكانية البكاء على المساعدة على تخفيف الألم. فبعض الدراسات تقترح أن الدموع العاطفية تحتوي على مواد كيميائية مثل الأوكسيتوسين والإندورفين، والتي بدورها تسبب الشعور بالراحة، وقد تساعد على تقليل الشعور بالألم الجسدي والنفسي، وتحسن الحالة المزاجية.
بالإضافة إلى أنه وفقاً لدراسة أجريت عام 2011، أظهرت النتائج أن فوائد البكاء في تحسين الحالة المزاجية انتقائية تختلف من شخصٍ لآخر، وأنها تتشكل من خلال البيئة الاجتماعية والخصائص الفردية للأشخاص، فوجدت الدراسة أن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات المزاج (مثل القلق أو الاكتئاب) أقل عرضة للشعور بالفوائد الإيجابية للبكاء.
كما اعتقد بعض الباحثين أن الدموع تحتوي كذلك على عدد من هرمونات التوتر، أشهرها «الكورتيزول» وغيرها من المواد الكيمائية السامة المرتبطة بالتوتر، وأن البكاء يمكنه تقليل مستويات هذه الهرمونات والمواد الكيميائية في الجسم، وبالتالي يقلل من الشعور بالتوتر ويخلص الجسم من السموم.
من المثير للاهتمام أنه عندما تصدر عن الحيوانات بعض الأصوات للتعبير عن الألم أو التوتر، فإن أجسامها تطلق أفيونيات داخلية تخفف الألم وتشعرها بتحسن. وبالمثل، قد يكون هناك بعض التأثير الهرموني غير المعروف الذي يحدثه البكاء على البشر. لذا فنحن في حاجة إلى مزيد من البحث في هذا المجال لتأكيد صحة هذا الاعتقاد من عدمه.
في الأخير، ربما يشعرك البكاء بتحسن حالتك المزاجية وربما لا، في النهاية هو استجابة طبيعية إنسانية لمزيج من المشاعر والمواقف التي نمر بها كل يوم، والتي من شأنها أن تساعدنا على تهدئة أنفسنا. في كل الأحوال لا يوجد مشكلة في ذرف بعض الدموع، وإن كان أمام الآخرين طالما شعرنا بحاجتنا لذلك.