أرى الكثير من الناس حولي يعاني، وذلك يحطم قلبي فعلاً. أسمع عن معاناتهم في كل مكان حولي، في أصوات أفراد عائلتي وأصدقائي وحتى زملائي والطلاب الذين ألتقي بهم عبر مؤتمرات الفيديو. أدرك هذه المعاناة بسهولة لأني أنا نفسي أعاني منها.
جميعنا يعاني من جائحتين؛ جائحة فيروس كورونا وجائحة الصحة العقلية. تتسم جائحة أمراض الصحة العقلية بارتفاع مستويات الوحدة والقلق والاكتئاب وغيرها من المؤشرات السلبية على تدهور صحتنا النفسية. فعلى سبيل المثال، وجد استطلاع حديث لمراكز السيطرة على الأمراض أن 40% من الأميركيين يبلغون عن مشاكل تتعلق بصحتهم العقلية.
الوحدة ومنازل غير آمنة
في الواقع، وقبل جائحة فيروس كورونا، كان أكثر من 60% من الأميركيين يعانون من الوحدة، بينما في المملكة المتحدة، أعلنت الكلية الملكية للممارسين العامين عن انتشار «وباء الوحدة» بين أطفال بريطانيا، والذي عُزي سببه جزئياً إلى قضاء الأطفال وقتاً أقل بكثير في الخارج مما يقضونه في المنزل، حتى أقل مما هو موصى به للسجناء لقضائه في الهواء الطلق يومياً. ومع قدوم الجائحة وفرض تدابير الإغلاق الصحي للحيلولة دون انتشار الفيروس، زادت الوحدة إلى مستوياتٍ قياسية غير مستدامة.
تضاعف القلق، والذي يُعتبر في الأساس عاطفة وجودية يصعب تحديدها وتنجم عن تهديد محتمل لوجودنا في البيئة، تضاعف 3 مرات عما كانت مستوياته قبل الوباء. لقد باتت بواعث القلق كثيرة، وأصبحت تتجلى في العديد من النواحي الجسدية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية لحياتنا.
في الواقع، يمكن أن يتسبب قضاء أوقاتٍ طويلةٍ ممتدة مع عددٍ قليل من أفراد الأسرة أو الأصدقاء بالقلق أيضاً، وبذلك تزيد الطين بلّة؛ حيث تضيف المزيد من التوتر إلى المستويات المرتفعة من التوتر الناجم عمّ يحدث خارج المنزل أصلاً. مما أدى لارتفاع حالات العنف المنزلي أيضاً، الأمر الذي دعا الأمم المتحدة للحديث عن ما يُسمى «جائحة الظل»، والتي تفيد، ومنذ تفشي وباء كوفيد-19، بازدياد معدلات العنف ضد النساء والفتيات والأطفال، وبخاصة العنف المنزلي.
إن الإقرار بأننا نعاني من جائحةٍ على المستويين البدني والعقلي يوفر نافذة مفاهيمية لكيفية ابتكار حلول أفضل للتعامل معها (أي مع التهديد الذي يهدد صحتنا الجسدية أو صحتنا العقلية على حدّ سواء).
علينا أن ندرك أولاً أن الشعور بالوحدة ليس بالعاطفة التي يمكن تحملها فترة طويلة من الزمن. فقد وجدت مجموعة كبيرة من الأبحاث، بما فيها الأبحاث التي أجريتها مع سارة رايت من جامعة كانتربري في نيوزيلندا، أن الشعور بالوحدة يخفض قدرتنا على إصدار الأحكام الجيدة ويقلل من اهتمامنا بالآخرين ويجعل من الصعب علينا تطوير العلاقات وبالتالي إعاقة إدامة الذات.
إنشاء أشكال مبتكرة من العمل الجماعي هو المعيار الجديد والضروري.
في الواقع، عندما مُنع التعذيب في السجون، كانت العقوبة الأكثر قسوة للسجناء هي الحبس الانفرادي، حيث لا يستطيع معظمهم تحملها، وتسبب للبعض أضراراً نفسية لا يمكن التعافي منها. قد تقول لنفسك: «ولكن لماذا أفعل ذلك الآن؟ لا أريد أن أصاب بهذا الفيروس، لذلك سأبقى في المنزل وأشعر بالوحدة الشديدة. على الأقل سأكون بأمان هنا». ولكن، هل أنت بأمانٍ فعلاً؟
إذا بقيت في المنزل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وطلبت مشترياتك من البقالة وغيرها من المنتجات إلى باب منزلك، وكان من سيوصلها إليك يحمل بعض البكتيريا أو فيروس كورونا، فهل كان البقاء في المنزل بهذا الشكل مفيداً حقاً، وهل يمكن الاستمرار بذلك فترةً أطول؟
مجدداً، من المحتمل أن تقلل الوحدة من قدرتك على إصدار الأحكام الجيدة، وتؤدي بك لاتخاذ قرارات متسرعةٍ سيئة حالما تخرج من كهفك الرقمي. قد تنطوي هذه القرارات المتسرعة على تجاهل حذرك من المخاطر بسرعة كبيرة لمجرّد أنك تتوق بشدة إلى التواصل الاجتماعي.
في الحقيقة، ارتقى البشر إلى قمة السلسلة الغذائية بسبب قدرتهم على استخدام عقولهم الكبيرة في تطوير قدراتهم الاجتماعية. فنحن نستخدم هذه القدرات للتعاون مع بعضنا البعض للتغلب على المخاطر التي تمثلها الحيوانات المفترسة مثلا، وفي تنظيم تربية أطفالنا واستهلاك الطعام وغير ذلك من الوظائف المجتمعية الأخرى.
وبالتالي فقد تطورنا إلى كائنات اجتماعية غير معتادةٍ على العزلة لفترات طويلة. فنحن بحاجة لبعضنا البعض، ليس فقط لأسباب اجتماعية ولكن للحفاظ على صحتنا الجسدية أيضاً. نحتاج إلى تنفس نفس الهواء الذي يتنفسه البشر والحيوانات والمخلوقات الأخرى، والذي يحمل البكتيريا من النباتات لكي نحافظ على صحتنا؛ ما لم نفعل ذلك، فإننا نخاطر بفقدان مقاومتنا للبكتيريا التي تحيط بنا على مدار الساعة.
تقترح أحدى النظريات أن احتمال إصابتك بفيروس كورونا ليس مرتبطاً فقط بعمرك أو حالتك الصحية فيما إذا كنت تعاني من أمراضٍ تنفسية أو مزمنة، بل مرتبط أيضاً بكمية الفيروسات أو الحمل الفيروسي الذي تتعرّض في الواقع.
تأملات فردية قد تكون مفيدة
سأذكر فيما يلي فكرة هنا أومن بها بشدة رغم خطورتها، ولكن أرجو عدم قرائتها كنصيحة طبية، بل كمجرّد تأملاتٍ من شخص مهتم كان يقرأ نفس القصص والأخبار التي تقرأها خلال الأشهر الثمانية الماضية. حسب نظرية «المتوسط الذهبي في الفلسفة» لأرسطو، يقع القرار الحكيم في منطقةٍ بين نقيضين، أو الاعتدال في الشيء من غير تفريط أو إفراط. وفقاً لهذه النظرية؛ من الواضح أنك ستعرض نفسك للخطر إذا تعرّضت لفيروس كورونا بشكلٍ مفرط من خلال الجلوس في غرفةٍ مع أشخاصٍ آخرين مصابين بالفيروس على سبيل المثال.
ومع ذلك، بالإضافة إلى الآثار الصحية العقلية للحجر الصحي، فإن الامتناع عن الخروج لتجنب مثل هؤلاء الأشخاص قد لا يكون مفيداً لصحتك الجسدية أيضاً (ناهيك عن أن الأهمية البالغة للقيام بنشاطٍ ما في الهواء الطلق، كالتمرين، للحفاظ على صحتك الجسدية والعقلية). إذ أن الاستنتاج المنطقي لنظرية الحمل الفيروسي يقول إن التقاط كمياتٍ صغيرة من البكتيريا -وربما من فيروس كورونا- قد يساعد جسمك على تطوير الأجسام المضادة التي تزيد من مقاومتك لها.
غالباً ما يسارع كبار السن إلى انتقاد الشباب اليوم لعدم ممارستهم التباعد الاجتماعي الصارم كما يفعلون هم. ومع ذلك، من الممكن للشباب، من خلال زيادة تعرّضهم للفيروس، أن يطوروا أجساماً مضادة قد تساعد الجميع على المدى الطويل من خلال زيادة مناعتهم وتقليل فرصة نقلهم للفيروس. ولكن العكس قد يكون صحيحاً أيضاً، كما يشير العديد من منتقدي تجربة السويد في الوصول إلى مناعة القطيع.
أخيراً، هناك قدر هائل من عدم اليقين في جميع أنحاء العالم حول كيفية انتشار هذا الفيروس، وهذا هو سبب قلق الكثيرين بشأنه. نحن، ببساطة، لا نعرف إلا القليل القليل عن هذا الفيروس.
اقرأ أيضاً: الشعور بالوحدة: هل لهواتفنا الذكية دور في ذلك؟
نصائح للتغلب على المشاعر السلبية خلال كورونا
ربما يكون الجواب في التوازن. قد يكون هناك خيار «وسط ذهبي» بين نقيضين لا يمكن الدفاع عنه أو تبنيه. ففي حالة الجائحة الحالية، يتمثل النقيضين في أن تغلق على نفسك المنزل وتصبح مثل «الزومبي» للتواصل مع الآخرين، وذلك من المحتمل أن يؤدي إلى تفاقم وحدتك ببساطة، أو تخرج وتعانق كل غريبٍ تلتقيه في الشارع.
قد يكون «الوسط الذهبي» الذي يأخذ في الاعتبار حاجتك إلى السلامة الجسدية والرفاهية النفسية هو الخروج بانتظامٍ، حتى يومياً، مع صديقٍ أو بدونه للتنفّس الهواء الطلق الذي تعطينا إياه الأشجار الخضراء على الأرض. علينا أن نعترف أن الطبيعة، إلى جانب علاقاتنا، هي إحدى أعظم الهبات التي حصلنا عليها في حياتنا.
وقد يتمثل هذا التوازن الفريد بين الأمان والاتصال في إرسال أطفالك إلى مدرسةٍ تشعر بأنها تتخذ الاحتياطات المناسبة، أو في تناول طعام الغداء مع صديقٍ أو اثنين فقط في حديقة محلية قريبة.
قد يكون التوازن في محاولة تجنّب الأشخاص عندما تخرج في نزهة أو تمشي أو تقف بعيداً عنهم؛ لأنك تريد حماية نفسك وحمايتهم. مع ذلك، يمكنك إظهار الدفء والاحترام لهم، خصوصاً لكبار السن، من خلال التلويح لهم مع حفاظك على التباعد الاجتماعي. يحتاج الجميع عندما يخرجون من عزلتهم الطويلة إلى التقدير والاعتراف الاجتماعي بهم بنفس القدر الذي تحتاجه أنت.
أو ربما طلب الجلوس في الخارج عند الذهاب إلى المطعم، أو اختيار المطاعم التي تقوم بفحص حرارة الداخلين إليها حيث توفّر التباعد الاجتماعي بين طاولاتها. وحتى تغيير المطعم إذا رأيت نادلاً يتساهل في ارتدائه الكمامة مثلاً، لتشجع بفعلك هذا المطاعم على تحسين خدماتها أكثر مع الحفاظ على التوازن بين الأمان والتواصل الذي يبحث عنه الناس.
وقد يكون التوازن هو التزامك بارتداء الكمامة والحفاظ على التباعد الاجتماعي عند الذهاب إلى المتجر، واستعمال المطهرات على يديك بعد أن تتعامل مع الطعام أو لمس عجلة القيادة أو هاتفك.
الأهم من ذلك -واعتماداً على عمرك وظروفك الصحية التي تعاني منها مسبقاً ومدى تحملك للمخاطر في نهاية الأمر- يجب أن تصمم الإستراتيجية المتوازنة والذهبية للعيش بشكلٍ صحي خلال الوبائين اللذين باتا يحاصراننا حالياً. لا بأس في أن تكتب بعضاً من هذه الاستراتيجيات التي ستبدأ في تطبيقها لإيجاد التوازن المناسب لك.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً
*نشر بواسطة «أنتوني سيلارد»، أستاذ مشارك بجامعة ولاية كاليفورنيا، معلم وخبير في مجال القيادة، كتب العديد من المقالات العلمية حول العاطفة وإدارة المشاعر. صدر كتابه الأخير بعنوان «Screened In: The Art of Living Free in the Digital Age» في مارس/ آذار 2020.