هل يؤثر تلوث الهواء على الدماغ أم يكتفي بأثره على القلب فقط؟

4 دقائق
تعد حركة المرور مصدراً شائعاً لملوثات الهواء السيئة مثل PM2.5 وثاني أكسيد النيتروجين والأوزون.

قد يكون للهواء الذي تتنفسه تأثيرات طويلة الأمد على دماغك؛ فالتعرض لمستويات عالية من تلوث الهواء قد يُسهم في الإصابة بالخرف في مرحلة لاحقة من الحياة.

هذا ما وجدتْه دراسة جديدة نُشرت مؤخراً في مجلة بي إم جيه أوبن (BMJ Open) عن طريق تتبُّع معدلات تشخيص الخرف ومستويات تلوث الهواء بالنسبة لكبار السن الذين يعيشون في منطقة لندن الكبرى، وتعدُّ هذه الدراسة -التي قامت أيضاً بتقييم عوامل أخرى مثل ضجيج حركة المرور والتدخين ومرض السكري- خطوةً أخرى نحو اكتشاف الارتباط بين التلوث والأمراض العصبية الإدراكية.

وكتب إيان كاري (المؤلف الرئيسي للدراسة، والاختصاصي في علم الأوبئة في جامعة سانت جورج في لندن) في رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى بوبيولار ساينس: "على الرغم من ضرورة التعامل مع النتائج بحذر، إلا أن الدراسة تعد إضافة مهمة للأدلة المتزايدة على وجود ارتباط محتمل بين التلوث المروري والخرف، كما يجب أن تشجع على إجراء المزيد من الأبحاث للتحقق من هذا الأمر".

ويعد الخرف أحد المشاكل الصحية الكبيرة حول العالم؛ فهو السبب الأول للوفاة في إنجلترا وويلز، والسبب الرئيسي الخامس للوفاة على مستوى العالم، ويُعدُّ مرض ألزهايمر -الذي تصفه مراكز السيطرة على الأمراض بأنه "شكل مميت من الخرف"- هو السبب الرئيسي السادس للوفاة في الولايات المتحدة.

وفكرة أن الهواء الملوَّث قد يسبب ما هو أكثر من السعال ليست جديدة، وهي أبعد ما تكون عن وصفها بذلك؛ فقد ربط العلماء منذ زمن بالفعل بين التلوث وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية. وتعدُّ الملوثات الأكثر إثارة للقلق هي الأجزاء الدقيقة من الجسيمات المعروفة باسم PM2.5 وثاني أكسيد النيتروجين والأوزون، والتي تنبعث جميعها في الغلاف الجوي عند قيادة أي سيارة بمحرك احتراق.

ولمعرفة ما إذا كان الدماغ قد يتأثر أيضاً، قام كاري وفريقه بتحليل السجلات الطبية لـ 131 ألف مريض تتراوح أعمارهم بين 50 و79 عاماً على مدى سبع سنوات، من عام 2005 إلى عام 2013، وفي شهر يناير من عام 2005 لم يكن أي من المشاركين قد عانى من الخرف أو حصل على الرعاية المنزلية كما هو ظاهر في السجلات، ثم تتبَّع الباحثون عدد المرضى الذين أُصيبوا بالخرف خلال فترة الدراسة.

وبعد ذلك حدَّد الباحثون متوسط كثافة كل من PM2.5 وثاني أكسيد النيتروجين والأوزون في عام 2004 في لندن الكبرى، كما قاموا بتقييم كثافة حركة المرور والقرب من الطرق الرئيسية ومستويات الضوضاء الليلية في كل منطقة حسب الرمز البريدي، ولأن إجراء هذه العملية في سنوات أخرى لم يؤدِّ إلى تغيير النتائج، استخدم الباحثون بيانات عام 2004 في حساب التعرُّض للتلوث بشكل تقريبي طوال فترة الدراسة.

وبعد السيطرة على العوامل الأخرى -مثل التدخين والسكري والعمر والعرق- وجد كاري وفريقه أن المرضى الذين يعيشون في المناطق ذات المستويات الخمس الأعلى من أكسيد النيتروجين كان لديهم زيادة في خطر الإصابة بالخرف بنسبة 40% من أولئك الذين يعيشون ضمن أدنى خمس مستويات، وظهرت زيادة مماثلة مع ارتفاع مستويات PM2.5، وقد وجد الباحثون -بمجرد أن بحثوا في البيانات- أن الارتباط لا يوجد إلا مع نوع واحد من الخرف؛ وهو مرض ألزهايمر.

تقول ميليندا باور (المتخصصة في علم الأوبئة في جامعة جورج واشنطن، والتي شاركت في مراجعة منهجية أجريت عام 2016 حول أبحاث الخرف وتلوث الهواء): "أنا متحمسة حقاً لكوننا بدأنا نرى مثل هذه الدراسات، وأعتقد أن هذه الدراسة مفيدة بشكل خاص لأنها تدرس مستويات الضوضاء الليلية".

غالباً ما تكون هناك ضوضاء عندما يوجد تلوث، وهذا يسمح لعلماء الأوبئة -مثل باور- بأن يتساءلوا عما إذا كانت التأثيرات على الدماغ -التي تبدو أنها بسبب التلوث- هي في الحقيقة بسبب التعرُّض الطويل للضوضاء المحيطة الصاخبة مثل حركة المرور؛ إذ من الممكن أن يكون الناس في المناطق الأكثر ضجيجاً ينامون بشكل أقل أو يتعرضون لإجهاد يومي أكبر، وقد وضعت هذه الدراسة في الاعتبار مستويات الضوضاء الليلية (عندما كان الناس أكثر احتمالاً لأن يكونوا في المنزل)، ووجدت أن الضوضاء لا تؤثر على زيادة احتمال إصابة الناس بالخرف أو انخفاضه.

إلا أن جينيفر ووف (المتخصصة في علم الأوبئة في كلية الصحة العامة بجامعة بوسطن، والتي تعاونت مع باور في المراجعة المنهجية التي أجريت في عام 2016) تقول إن استخدام السجلات الطبية لتشخيص الخرف هو أكبر قيود الدراسة، وإنها طريقة شائعة عندما يتعلق الأمر بتلوث الهواء، لكن هذه البيانات يمكن أن تكون غير موثوقة؛ فهي تعكس فقط حالات الخرف التي تم تشخيصها، وليس جميع الحالات بالضرورة.

كما تقول ووف إن هناك احتمالاً في هذه الحالة بأن يُصاب ذوو التعرض المرتفع لملوثات الهواء بالسكتة الدماغية وأمراض القلب، وبالتالي فإنهم يراجعون أطباءهم بشكل أكثر انتظاماً عندما يُصابون بالخرف في النهاية. وهذا يجعل الأمر يبدو وكأن هناك علاقة بين الخرف والتعرض للتلوث، ولكن من الممكن أن يكون هناك مجموعة من الأشخاص يتعرضون للتلوث بشكل أقل ومع ذلك يُصابون بالخرف، لكنهم يبقون في المنزل دون تشخيص حالتهم لأنهم يتمتعون بصحة جيدة؛ مما يؤدي إلى انحراف النتائج.

وتقول باور إن كيفية إيذاء ملوثات الهواء للدماغ ما تزال مجهولة، لكنَّ هناك نظريتين عاملتين؛ إحداهما هي أن ملوثات الهواء تؤثر على الأوعية الدموية في الدماغ، إذ تقول باور: "إن ما هو سيئ للقلب غالباً ما يكون سيئاً لدماغك أيضاً"، ومن المحتمل أن تؤثر هذه الملوثات على الرأس والقلب بطرق متشابهة. أما النظرية الأخرى فهي أن الملوثات تدخل فعلياً إلى الدماغ من خلال العصب الشمي، فتسبِّب الالتهاب والإجهاد التأكسدي في الأنسجة بشكل مباشر.

وعلى الرغم من محدودية هذه الدراسة والدراسات الأخرى المشابهة، إلا أن هذا النوع من الأبحاث مهم كما تقول باور، وخاصة بالنسبة لمجالٍ لا يوجد فيه أي دواء يستطيع بالفعل أن يعالج المرض الذي يدرسه.

وتقول ووف إن العلماء إذا تمكَّنوا من إثبات هذا الارتباط بشكل حاسم، فعندئذ سيكون من الممكن تقليل معدلات الإصابة بالخرف عن طريق تحسين نوعية الهواء، وتضيف: "يمكننا تغيير الوباء من خلال الاعتماد على السياسة، وهو أمر مدهش"، بدلاً من استهداف عادات الأفراد فقط، وأخيراً فهي تنوِّه أننا لن نتمكن من التخلص من الخرف تماماً، "ولكن يمكننا على الأقل تغيير الأرقام قليلاً".

المحتوى محمي