هل تُسهم الأدوية المضادة للاكتئاب في مقاومة المضادات الحيوية؟

مقاومة المضادات الحيوية في ازدياد.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

وفقاً لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، فإن حوالي 13% من الأميركيين يتناولون مضادات الاكتئاب، وهي زيادة كبيرة عما كانت عليه منذ ثلاثة عقود، فقد كان لا يتناول هذه الأدوية إلا شخص واحد من بين كل 50 أميركياً، وفي الوقت نفسه تزداد مقاومة البكتيريا المُعدية للمضادات الحيوية، مما يتسبب في وفاة نحو 700 ألف شخص حول العالم كل عام، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 10 ملايين حالة وفاة سنوياً بحلول عام 2050 إذا صحَّت النماذج الحالية.

وفي حين أن الارتباط لا يعني السببية بالضرورة، إلا أن هناك دراسة جديدة تشير إلى أن هذين الأمرين قد يكونان أكثر ارتباطاً ببعضهما مما نعتقد، وتُظهر النتائج المنشورة في دورية إنفايرونمنت إنترناشيونال (Environment International) أن المكوِّن الرئيسي لبعض مضادات الاكتئاب الشائعة يمكنه أن يحفِّز الطفرات الجينية في بكتيريا الإشريكية القولونية مما يزيد من مقاومتها للمضادات الحيوية، وبالتالي فإن هذا يدعم المخاوف من أن الاستخدام المتزايد وغير المنظَّم لمضادات الاكتئاب يمكن أن يؤدي إلى تفاقم البكتيريا المقاوِمة للمضادات الحيوية وازديادها.

يقول باتريك ماكنمارا (وهو مهندس بيئي في جامعة ماركيت، ولم يشارك في الدراسة): “نعلم أن المضادات الحيوية وكذلك مضادات الميكروبات الأخرى مثل التريكلوسان -وحتى المعادن- يمكنها أن تؤثر على المقاومة للمضادات الحيوية، لكن هذه الدراسة تلقي الضوء على إمكانية وجود أدوية أخرى غير مُعدَّة لتؤثر على البكتيريا، ولكنها تحفِّز مقاومة المضادات الحيوية”.

ولا يزال هناك الكثير من العمل الذي يلزم القيام به لإثبات أن مضادات الاكتئاب تؤثر بشكل فعلي على سلوك البكتيريا في أوساط العالم الحقيقي، وليس هناك أي دليل بالتأكيد على أن الأشخاص الذين يحتاجون إلى مضادات الاكتئاب لا يجب أن يأخذوها، وفي الواقع فإن المخاوف الأكثر إلحاحاً تشمل الإفراطَ في وصف المضادات الحيوية في حد ذاتها واستخدامها بشكل هائل في عملية إنتاج اللحوم، لكن النتائج تذكِّرنا بقلة ما نعرفه حول الأدوية التي نعتمد عليها ومدى تأثيرها على العالم من حولنا.

وركَّزت الدراسة على دواء فلوكسيتين؛ وهو أحد مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRI)، ويعالج الاكتئاب عن طريق زيادة مستويات مادة السيروتونين الكيميائية، وكثيراً ما يوصف الفلوكسيتين -المعروف تجارياً باسم بروزاك- لمساعدة المرضى على الشفاء من الاكتئاب واضطراب الوسواس القهري والنهام العصبي واضطرابات الهلع، ولكن على الرغم من وجوده في الأسواق الطبية منذ عام 1986، إلا أن دراسة تأثيراته على البيئة نادرة.

ويحذِّر العلماء منذ سنوات من إمكانية أن تقوم بعض المركّبات الدوائية بإعادة الدخول إلى البيئة بعد خروجها من أجسامنا لتتفاعل مع الميكروبات؛ حيث إن من المفترض أن تموت البكتيريا التي تتعرَّض للمضادات الحيوية، ولكن هذا التعرُّض يشجع أيضاً على تطور الطفرات التي تقاوم السموم المضادة للميكروبات؛ وذلك لأن السلالات المقاومة فقط هي التي تبقى وتستمر في الانتشار، وبالتالي فكلما ازداد عدد الأدوية التي تتسلل إلى البيئة، ازدادت مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية؛ مما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة البكتيريا المقاوِمة لدرجة لا نستطيع إيجاد طرق فعّالة لعلاجها.

ويُذكر أن حوالي 11% من جرعة الفلوكسيتين التي تُعطى للمريض تمر عبر الجسم وتخرج عن طريق البول دون تغيير، وتنتقل مباشرة إلى البيئة عبر أنظمة الصرف الصحي، ورغم أن الفلوكسيتين وغيره من مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية ليست من المضادات الحيوية، إلا أننا لا نعرف الكثير عن كيفية تأثيرها على المجموعات البكتيرية، وقد أشارت الدراسات السابقة إلى أن مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية يمكنها أن تزيد أو تُبطل من نشاط الميكروبات المقاوِم للمضادات الحيوية ضد العدوى البكتيرية.

وقد قام فريق من الباحثين في جامعة كوينزلاند في أستراليا بتعريض مجموعات بكتيريا الإشريكية القولونية إلى جرعات مختلفة من الفلوكسيتين في المختبر؛ من أجل التحقق من كيفية ارتباط ذلك بمقاومة المضادات الحيوية، وتم اختيار الإشريكية القولونية بسبب سيطرتها على البكتيريا المتعايشة في أمعاء الإنسان وفي بيئات المجاري المائية داخل المناطق السكنية وحولها، بالإضافة إلى حساسيتها العالية للمضادات الحيوية.

وأظهرت الاختبارات أن التعرض للفلوكسيتين لمدة 30 يوماً قد أدى إلى زيادة معدَّل الطفرات الوراثية في مضخات التدفق عند الإشريكية القولونية، وهذه المضخات هي التي تدفع السموم -كالمضادات الحيوية- إلى خارج الخلية، وتعدُّ طفرات مضخات التدفق من العوامل الشائعة المؤدية إلى مقاومة المضادات الحيوية، وقد طوَّرت الخلايا عند هذه البكتيريا مضخات تدفق يمكنها أن تلفظ المضادات الحيوية الشائعة بسرعة (مثل الكلورامفينيكول والأموكسيسيلين والتتراسيكلين) قبل أن تسبِّب أي ضرر حقيقي، كما أحدثت الجرعات الأكبر من الفلوكسيتين معدلات أسرع للطفرات عند البكتيريا.

وعلى الرغم من أن مثل هذه الدراسة قد تثير بعض المخاوف، إلا أن هناك محاذير هائلة يجب أخذها في الاعتبار؛ أولاً: أن الاختبارات أجريت في المختبر باستخدام تراكيز عالية للغاية من الفلوكسيتين، ويقتصر البحث على تأثيرات أحد مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية على نوع واحد فقط من البكتيريا، ولا بد لدراسات المتابعة اللاحقة أن تُجرى تجاربها على النماذج الحيوانية في الأوساط الحقيقية، ويفضَّل استخدام أنواع متعددة من الأدوية والبكتيريا (مثل المكورات العنقودية الذهبية المقاوِمة للميثيسيلين والمطثية العسيرة)؛ من أجل إثبات ما إذا كانت مضادات الاكتئاب هذه تُسهِم في مشكلة مقاومة المضادات الحيوية في الأوساط الحقيقية أم لا.

ورغم أن هناك محذوراً يستحق الدراسة هنا، إلا أنه لا توجد بيانات كافية حتى الآن لاستخلاص النتائج أو إجراء تغييرات قوية في السياسات الدوائية، ويعتقد بول تيري -عالم الأوبئة في جامعة تينيسي، والذي لم يشارك في الدراسة- بأن الارتباطات التي تمت ملاحظتها في هذه الدراسة وغيرها من الدراسات المشابهة مثيرة لبعض الاهتمام، ولكن في الوقت الحالي “فإن كل ذلك هو مجرد تكهُّنات حول مدى تأثيرها على صحة الإنسان، وأنا واثق إلى حدٍّ ما من عدم وجود أدلة كافية تبرِّر أي تغيير في الممارسة السريرية المتعلقة باستخدام مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية استناداً إلى هذه النتائج”، مشيراً إلى ندرة الدراسات بشكل عام، والنقص الواضح في الدراسات عند البشر بشكل خاص، والطبيعة التي تعتمد على الجرعة للارتباطات التي تمت ملاحظتها، بالإضافة إلى أنه متحفِّظ بشكل خاص حول تأييد أي تصرفات من شأنها أن تنتقص من “الهدف الأكثر ارتباطاً من الناحية السريرية للعلاج الفعَّال للاكتئاب عند الذين يعانون منه”.

يقول ماكنمارا إن أحد الحلول قريبة المدى -والذي قد يستحق البحث- هو “تشجيع المرضى على عدم رمي الأدوية في مياه الصرف الصحي، ولكن إعادة الأدوية غير المستخدمة إلى برامج استعادة الأدوية أو إلقائها بعيداً”، وحتى إذا لم نكن نفهم التأثيرات بشكل كامل، إلا أن من الواجب علينا -بلا شك- أن نسعى جميعاً إلى الحدِّ من الأدوية التي ينتهي بها المطاف في المياه، سواء كانت تحفِّز مقاومة المضادات الحيوية أم لا.

اقرأ أيضا: أفضل دواء للاكتئاب بدون آثار جانبية.