بكتيريا تسبب التسمم الغذائي، لكنها أيضاً تمنح الجسم العناصر الغذائية الأساسية

4 دقائق
يشير بحث جديد إلى أن الإشريكية القولونية داخل الأمعاء السليمة قد تساعد الأجسام المضيفة في الحصول على الحديد الذي تحتاجه.

معظم الناس يعرفون الإشريكية القولونية بالاسم دون العديد من الميكروبات المعوية، وهي تظهر في الأخبار غالباً بفضل قصص التسمم الغذائي الناتجة عن المياه الملوثة والعمال الذين لا يغسلون أيديهم، لكن العديد من سلالاتها تعد جزءاً طبيعياً من جهازنا الهضمي. وفي الواقع فإن ما جعل تفشي الإشريكية القولونية أمراً شائعاً جداً هو أنها منتشرة بكثرة في أمعائنا وأمعاء الحيوانات الأخرى.

وكان الباحثون حتى وقت قريب يظنون أنها مجرد كائنات تستوطن الأمعاء، وتحصل على المغذيات الدقيقة -مثل الحديد- من عملية الهضم، وتكون في توتر مستمر مع مضيفها من أجل السيطرة على موارد الغذاء، لكن هناك دراسة جديدة حاسمة من جامعة كولورادو في بولدر تشير إلى أن هذه البكتيريا الصغيرة تساعدنا بالفعل على امتصاص المزيد من الحديد، ويأمل الباحثون في أن يؤدي ذلك في النهاية إلى أدوية جديدة وأكثر نجاحاً لعلاج فقر الدم الناتج عن نقص الحديد.

وهذه النتيجة مثيرة للدهشة؛ فهي تتناقض مع العلم القائم حول العلاقة بين البكتيريا وبيننا بصفتنا مضيفين لها، والباحثون حتى الآن يظنون أن الإشريكية القولونية تقوم فقط بأخذ الحديد من المادة الموجودة في الجهاز الهضمي، باستخدام مادة كيميائية تسمى إنتيروباكتين، تلتقط بها الحديد وتنقله إلى الخلية، لكن عالمَي الأحياء "مين هان" و"بن كي" اكتشفا أن الإنتيروباكتين يساعد أيضاً خلايا الجهاز الهضمي على تجميع الحديد، وقد اختبروا ذلك على بعض الديدان الأسطوانية ووجدوا أن هذه العملية وفَّرت لهم معظم الحديد الذي كانوا يحتاجون إليه.

ومادة إنتيروباكتين هذه هي أقوى مركبات تجميع الحديد المعروفة باسم خلابة الحديد (حيث يفقد الحديد خواصه الأيونية مع احتفاظه بالقدرة على الحركة والذوبان، وبذلك يكون جاهزاً للامتصاص)، ولكنها مجرد مادة واحدة من هذه المواد. كما يقول هان إن الباحثين كانوا يعتقدون حتى وقت قريب أن المركبات خلابة الحديد سيئة على البكتيريا المضيفة، وأنها تأخذ الحديد الذي كان يمكن أن تستهلكه، وكانت الصورة عبارة عن "شد حبل حديدي" بين الجسم المضيف والبكتيريا، حيث يحاول كل منهما انتزاع الحديد من الطعام.

يقول هان: "هذه النتيجة تخبرنا بأن العكس هو الصحيح"؛ حيث إن مادة إنتيروباكتين التي تنقل الحديد إلى خلايا البكتيريا تحمله أيضاً إلى خلايا المضيف، وذلك عن طريق الارتباط مع مادة كيميائية تنتج الأدينوزين ثلاثي الفوسفات؛ وهو جزيء الطاقة الذي نحتاجه جميعاً للعيش والعمل، ويُنتَج الأدينوزين ثلاثي الفوسفات هذا داخل المُتَقدِّرة الخلوية (ويشار إليها أحياناً باسم محطة توليد الطاقة في الخلية)، والتي تحتاج إلى الكثير من الحديد لتواصل ضخ الطاقة.

وبعبارة أخرى فإن الحياة تحتاج إلى وجود الحديد، خاصة الحديد القابل للذوبان الذي تستطيع الخلايا امتصاصه، ويساعد ذلك في تفسير سبب إنتاج البكتيريا لمجموعة كاملة من المركبات خلابة الحديد، موجهة تحديداً لسحبه من المضيف الذي يقوم جهازه الهضمي بجعله قابلاً للذوبان، وبحسب ما تُظهره هذه النتيجة الجديدة فإن البشر تطوروا -مع مرور الوقت- من أجل الاستفادة من هذه العملية؛ مما يجعل هذه العلاقة تبدو أكثر تكافلية، وبالطبع لا أحد يعرف ما حدث في البداية.

أما هان وكي فقد قاما باكتشافهما أثناء العمل على الديدان الأسطوانية من نوع الربداء الرشيقة؛ حيث تستضيف هذه الديدان -بشكل طبيعي- الكثير من الإشريكية القولونية، لكن العلماء كانوا يغذون عيناتهم بسلالة معدلة وراثياً لا تنتج الإنتيروباكتين، فوجدوا الديدان لم تنمُ أيضاً دون وجود مادة الإنتيروباكتين، التي كان يُعتقد سابقاً أنها تسلب الحديد فقط. ثم نظر الباحثون في التركيب الكيميائي لمادة الأدينوزين ثلاثي الفوسفات داخل كل من الخلايا البشرية وخلايا الديدان، واكتشفوا أن الخلايا لها نفس التكوين، وأن لها نفس القدرة على جمع الحديد بفضل الإنتيروباكتين.

ويقول هان إن هذا يعني أن التفاعل الذي يحدث في الديدان الإسطوانية من شبه المؤكد أنه يحدث أيضًا في الثدييات، والسؤال الوحيد الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كان ذلك يلعب دوراً كبيراً في امتصاص الحديد عند البشر كما عند الديدان. ويعمل فريق هان حالياً على إجراء تجارب على الفئران لإثبات ذلك (فالقوارض -رغم بقاء التجارب غير بشرية- هي على الأقل أقرب إلينا بكثير من الديدان الأسطوانية البسيطة).

وهم يأملون في أن يؤدي هذا الاكتشاف في النهاية إلى علاجات جديدة وأكثر فاعلية لفقر الدم الناتج عن نقص الحديد، وتعد العلاجات الحالية قاسية على الجسم ولها تأثير محدود، ولكن فقر الدم هو مشكلة صحية كبيرة وشائعة في الفئات السكانية غير الحصينة (مثل الأطفال، والنساء في سن الحيض)؛ يقول هان: "إن تناول كمية كبيرة من الحديد له آثار جانبية كثيرة وكفاءة منخفضة للغاية"، وهذا يعني أن العديد من الذين يعانون من فقر الدم لا يمكنهم معالجته بفعالية.

تقول ناتاشا كيرينكو (عالمة الأحياء الجزيئية في جامعة رايس، والتي لم تشارك في هذه الدراسة الجديدة): "إنها نتيجة مثيرة جداً"، وهي ترى أن إثبات هذا التفاعل داخل الخلايا يثير الكثير من التساؤلات، وهو ما ستعالجه الأبحاث في المستقبل، وتضيف: "الحديد هو أكثر المغذيات الدقيقة أهمية، ولا يمكننا صنع الأدينوزين ثلاثي الفوسفات من دونه"، ولكن الميكروبيوم كله يحتاج أيضاً إلى الحديد حتى يعيش، وليس كل ما في الميكروبيوم جيداً لنا ولا للكائنات المسبِّبة للأمراض التي تعيش معه، وهذا يعني أن العلماء يحتاجون إلى إجراء المزيد من الأبحاث حول الكائنات الميكروبيومية التي يمكنها الحصول على الحديد بطريقة الإنتيروباكتين، تماماً مثلنا ومثل الإشريكية القولونية، فنحن إذن نحتاج إلى التأكد من أننا لا نغذي الأشياء التي قد تسبِّب لنا المرض عن طريق الخطأ.

وكتبت كيرينكو في رسالة بالبريد الإلكتروني: "من المثير حقاً أن نرى المواد خلابة الحديد البكتيرية توفِّر الحديد للمضيف بدلاً من سحبه"، ويفترض أن يؤدي إجراء المزيد من البحوث على هذه المواد إلى اكتشاف مدى إمكانية المواد الأخرى على جلب الحديد أيضاً إلى الخلايا المضيفة، أو اكتشاف أن الإنتيروباكتين فقط هو الذي يمكنه ذلك. وهي تقول إنه إذا كان هناك المزيد من أنواع المواد خلابة الحديد تستطيع فعل ذلك، فقد تتغير الطريقة التي نعالج بها فقر الدم، أما إذا كان الإنتيروباكتين فقط هو الذي يستطيع القيام بذلك، فستكون عملية تصميم العلاج أكثر بساطة.

وفي النهاية -ورغم إثارة هذه النتيجة- فإن هناك حاجة إلى مزيد من العمل لفهم طبيعة هذه العملية وما الذي قد يؤثر عليها، وقد كتبت جانيل آرثر (عالمة الأحياء الدقيقة) في رسالة عبر البريد الإلكتروني: "سيكون من المهم أن نفهم كيفية تأثير العديد من المواد خلابة الحديد البكتيرية على خلايا الثدييات؛ فبعضها قد يمنح الحديد، وبعضها قد يسلبه".

كما تقول إن الشيء الآخر هو أن الخلايا في جسمنا ليست متشابهة كلها ولا حتى تقوم بالوظائف نفسها، فربما تستطيع الخلايا التي تبطِّن القناة الهضمية استخدام الإنتيروباكتين للحصول على الحديد، بينما لا تكون الخلايا الأخرى قادرة على ذلك؛ فهناك إذن الكثير مما يجب معرفته، ولكن هذا الاكتشاف يجعلنا نرى الحياة داخل أجسامنا من منظور آخر.

المحتوى محمي