احتوى هذا القرن على 17 سنة هي الأكثر حرارة من بقية السنوات المسجَّلة لدينا، وهذا الأمر ليس من باب الاستهزاء على اعتبار أنه لم يمضِ سوى 18 عاماً منه، كما لا يعدُّ هذا العام استثناءً؛ حيث حطَّمت الأشهر الثلاثة الماضية مرة أخرى الأرقام القياسية لدرجات الحرارة في الولايات المتحدة بقارة أميركا الشمالية، ويتوقع العلماء أن يزداد الوضع سوءاً مع المعدل الحالي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
ومن المرجح أيضاً مع ارتفاع درجات الحرارة أن نشهد زيادة في الوفيات المرتبطة بالطقس؛ حيث تعد موجات الحرارة -مثل الموجة التي شهدتها جميع القارات في النصف الشمالي من الكرة الأرضية- أحد أكبر المخاطر المرتبطة بالمناخ على صحة الإنسان، ويقدِّر تقرير صدر عام 2014 من قِبل مراكز مكافحة الأمراض أن 666 شخصاً يموتون في الولايات المتحدة سنوياً لأسباب تتعلق بالحرارة، وفي بعض الحالات القصوى -مثل موجة الحر التي حدثت في أوروبا في عام 2003– تمَّ عزو 70 ألف حالة وفاة إلى الحرارة.
وتشير دراسة نُشرت مؤخراً في مجلة بلوس ميديسين (PLOS Medicine) إلى أن من الممكن أن ترتفع هذه الأرقام إلى أكثر من ذلك بكثير؛ حيث درس علماء من 18 دولة كيفية تأثُّر معدلات الوفيات في 412 مدينة بتغيُّر المناخ، وتتبعوا الوفيات المرتبطة بموجات الحرارة من عام 1984 إلى عام 2015 وقدَّروا معدلات الوفيات المستقبلية، مع تغيير توقعاتهم وَفقاً لأربعة مستويات محتملة لانبعاث غازات الاحتباس الحراري وثلاثة معدلات للنمو السكاني، وكذلك وفقاً لمدى اتخاذ خطوات من البشر والمجتمعات للتكيُّف مع ارتفاع درجات الحرارة.
وهم يتوقعون أنه إذا استمر الاحترار العالمي في مساره الأكثر شدة ولم يتم فعل أي شيء للتخفيف من الآثار، فستحدث زيادة بنسبة 350 إلى 500% في الوفيات الناجمة عن موجات الحرارة في الولايات المتحدة بحلول عام 2080، كما سيكون التأثير أسوأ في المناطق القريبة من خط الاستواء؛ حيث يتوقع أن تشهد كولومبيا والبرازيل والفلبين معدل وفاة يزيد على 775%. ويُذكر أن الوفيات الناجمة عن موجات الحرارة قد ازدادت بالفعل في جميع أنحاء العالم بنسبة 2300% من عام 1991 إلى عام 2000 ومن عام 2001 إلى عام 2010.
يقول شوبايو ساها (أستاذ الصحة العامة في جامعة إيموري): "إذا نظرت إلى تقييمات المناخ التي أُجريت في الولايات المتحدة حتى الآن، فستجد أن الأدلة كثيرة جداً على أن موجات الحرارة ستزيد من حيث التكرار والشدة والمدة في جميع أنحاء البلاد، وبالتالي سيتأثر الجميع في كافة أنحاء العالم وليس فقط في الولايات المتحدة".
وتعتبر ضربة الشمس هي السبب التقليدي للوفاة الناجمة عن الحرارة؛ وذلك عندما لا يتمكن الجسم من تبريد نفسه بشكل صحيح، فترتفع درجة الحرارة الداخلية إلى 40 درجة مئوية أو أكثر، كما تؤدي ضربة الشمس إلى أضرار في الدماغ والقلب والكليتين والعضلات، ويمكن أن تؤدي إلى الوفاة.
ويعدُّ كبار السن والأطفال الصغار أكثر عرضة للحرارة الشديدة؛ لأن أجسامهم لا تستطيع تنظيم درجة الحرارة بشكل جيد، وبالتالي ترتفع درجة حرارة أجسامهم بسهولة أكبر. كما أن الأشخاص المصابين ببعض الأمراض مثل أمراض القلب والسكري وأمراض الجهاز التنفسي هم أيضاً عرضة للتأثر؛ لأن الحرارة الشديدة يمكن أن تؤدي إلى تفاقم هذه الحالات. والأكثر من ذلك هو أن عدة أنواع من الأدوية -بما فيها أدوية ضغط الدم ومضادات الاكتئاب- تجعل الناس أكثر حساسية للحرارة؛ وذلك من خلال التأثير على قدرة الجسم على الاستجابة لدرجات الحرارة العالية والجفاف، كما أن من الممكن أن تحدث الوفاة نتيجة ازدياد العنف؛ إذ أشارت دراسة حديثة إلى أن معدلات الانتحار ترتفع في الأشهر ذات الحرارة الأعلى من المتوسط، وأظهرت أبحاث أخرى وجود صلة بين والحرارة والعنف بين الأشخاص.
وليست المناطق الحارة فقط هي المعرضة للخطر؛ ففي الواقع يمكن للمناطق الأقل اعتياداً على الحرارة أن تكون شديدة التأثُّر لأنها غير جاهزة للتعامل مع درجات الحرارة الشديدة، وقد أدَّت مثلاً إحدى موجات الحر الشديدة إلى مقتل ما لا يقل عن 700 شخص، وذلك في شيكاغو عام 1996؛ وهي مدينة لا تتعرَّض بانتظام إلى الارتفاع الكبير في درجات الحرارة.
وتقول كريستي إيبي (أستاذة الصحة العالمية في جامعة واشنطن، وهي أحد مؤلفي الدراسة في مجلة بلوس ميديسين): "إن اليوم الذي تبلغ فيه درجة الحرارة 32 درجة مئوية في مدينة فينيكس بولاية أريزونا يختلف كثيراً عن يومٍ بنفس الدرجة في مدينة أنكوريج بولاية ألاسكا؛ ولذلك علينا أن نراعي أن هناك اختلافاً فيما يتعلق بالتأقلم الشخصي؛ أي في كيفية تعاملنا مع الجو الحار بخصوص بملابسنا وسلوكنا، والأهم من ذلك: بنيتنا التحتية".
ومن المهم ملاحظة أن هذه الوفيات ليست حتمية؛ فقد انخفضت في الدراسة الأخيرة توقعات معدل الوفيات بشكل كبير عندما تم تضمين التأقلمات المحتملة مع الحرارة، إذ انخفضت الزيادة إلى نسبة 37 إلى 79% فقط في الولايات المتحدة. وهذه التدخلات تشمل أنظمةَ الإنذار المبكِّر، وتحسُّن رسائل الصحة العامة حول طرق الحفاظ على البرودة، ولا سيما استهداف الفئات الضعيفة من السكان مثل المشرَّدين والمسنِّين، كما أن تحسين تخطيط المدن والخدمات الصحية التي تهتم بالحرارة على وجه الخصوص يمكنه أن يساعد في إنقاذ الأرواح.
وتقول إيبي: "إن الأبعاد المتعددة لمجتمعنا متوقَّعة على افتراض أن المناخ سيستمر في البقاء على ما هو عليه الآن، لكنه بالطبع ليس كذلك؛ حيث سنشهد في غضون 20 أو 30 سنة حدوث الكثير من التحوُّلات، ونحن الآن في مرحلة انتقالية ينمو فيها الوعي حول نطاق التغييرات التي يجب إجراؤها وشدتها".