يُعدُّ الدماغ البشري واحداً من أكثر التشكيلات البنيوية تعقيداً على هذا الكوكب عموماً، لكننا ما نزال بالكاد قادرين على فهم ما يميزه، وربما نكون قد اقتربنا قليلاً من اكتشاف ذلك؛ فقد أشارت دراسة -نُشرت يوم الإثنين الموافق 27 أغسطس الماضي في مجلة Nature Neuroscience- إلى وجود نوع جديد من خلايا الدماغ، وهو فريد من نوعه عند البشر.
يُطلق على هذا النوع من الخلايا اسم عصبون روزهيب أو وردة المسك (Rosehip neuron)؛ حيث تشكل هذه الخلايا حوالي 10% إلى 15% من الطبقة العليا من القشرة المخية الحديثة عند الإنسان، وهو جزء الدماغ المسؤول عن الكثير من العمليات الإدراكية المتطورة لدينا. وقد كان الغرض من هذه الدراسة هو فهم التنوع الذي تتميز به القشرة المخية الحديثة، ومعرفة ما إذا كان البشر يمتلكون أنواعاً من الخلايا العصبية ليس لها وجود عند الحيوانات الأخرى.
يقول جابور تاماس (وهو باحث من جامعة سيجيد في هنغاريا، وأحد المشاركين في الدراسة الجديدة): "لم يسبق لنا أن رأينا شيئاً مثل هذا من قبل"، ويواصل قائلاً: "جاءت النتائج مثيرة للدهشة، ولكننا لسنا مندهشين من العثور على عناصر من هذه الدارة العصبية البشرية التي ربما ينفرد بها نوعنا دوناً عن باقي الأنواع، كما أننا لسنا مندهشين من أن الشبكات العصبونية عند البشر قد تكون أكثر كثافة وتعقيداً".
الأمر المثير للدهشة -بحسب تعبير تاماس- هو مدى التفرُّد البنيوي للخلية العصبية، والذي يبدو أنه يسمح لها بإطلاق الإشارات بطريقة تتميز بدرجة فائقة من التخصص، وإن كشف المزيد عن هذه العملية وكيفية عملها قد يلقي المزيد من الضوء على ما يجعل الدماغ البشري يتربع على عرش المملكة الحيوانية.
وقد اعتمد المسح العصبوني للطبقة العليا من القشرة المخية الحديثة على تقنيتين مختلفتين؛ فقد قام الباحثون في معهد آلن لعلوم الدماغ في سياتل بتحليل التسلسل الجيني لخلايا منفردة مأخوذة من بعض الأشخاص الذين تبرَّعوا بأدمغتهم بعد الموت، وفي نفس الوقت أجرى تاماس وفريقه بحثاً منهجياً عن العصبونات ذات البنى وغيرها من الميزات التي لم يُعثر عليها في أدمغة القوارض، وذلك بقياس النشاط الكهربائي في الخلايا المنفردة. ثم تمكن الباحثون -بالجمع بين المقاربتين- من تحديد عصبون روزهيب وفهم شكله وطريقة توجيهه للإشارات إلى العصبونات الأخرى، ومعرفة الجينات التي تتحكم في وظائفه.
ما يميز عصبون روزهيب فعلاً هو نهايته المحورية، وهي أداة الإشارة للعصبون، والتي تطلق الناقلات العصبونية نحو الخلايا الأخرى. وهذه الناقلات تلعب -بشكل أساسي- دور اللغة التي تستخدمها العصبونات للتواصل فيما بينها؛ يقول تاماس: "تتخذ النهاية المحورية لخلية روزهيب شكل ثمرة وردة المسك"، وهي الثمرة التي تبقى بعد أن تتساقط بتلات الوردة، ويتابع تاماس قائلاً: إن هذا الشكل المغزلي الأشعث "هو ما لفت انتباهنا في البداية".
وتأخذ الخلية حجماً مضغوطاً للغاية، يساوي تقريباً نصف حجم أصغر نوع من العصبونات الحيوانية في البحث السابق، ولم يتأكد الباحثون تماماً من وظيفة هذه العصبونات، لكنهم يعتقدون أنها تثبِّط النشاط الدماغي بشكل انتقائي عن طريق منع تفعيل العصبونات "المنبهة"، وهو دور مناسب لها بفضل شكلها الفريد والصغير؛ يقول تاماس: "هذه الوظيفة محدَّدة لدرجة أننا لم نشهد مثيلاً لها من قبل".
وعلى الرغم من أن القوارض تفتقد إلى عصبونات روزهيب، إلا أن هذا لا ينفي وجود هذه العصبونات في أدمغة حيوانات أخرى؛ يقول تريجفي باكين (وهو عالم في معهد آلن ومؤلف مشارك في الدراسة): "توجد أمثلة أخرى لأنواع من الخلايا الموجودة في أدمغة البشر وليست في أدمغة القوارض، مثل الخلايا المغزلية، لكنها موجودة عند الثدييات الاجتماعية كبيرة الدماغ مثل القردة والدلافين، وبالتالي فقد توجد خلايا روزهيب أيضاً عند هذه الأنواع". وقد نتمكن من العثور على عصبونات روزهيب عند حيوانات أخرى باستخدام نفس التقنيات التي استخدمها الفريق، ومن ثم دراسة الفرق بينها وبين خلايا روزهيب البشرية.
ويعتقد تاماس أن هذه الخلايا تمثل عرضاً جيداً لطريقة عمل التطور، وهو العملية التي تستخدمها الطبيعة لإغناء البيولوجيا عبر الزمن، وإنشاء بنى جديدة تسمح للأنواع بتطوير وظائف أكثر تحديداً وتعقيداً، يقول باكين: "يمثل التطور في هذه الحالة موضوعاً يستحق التأمل، وإن أهم نتيجة لهذه الدراسة هي أننا أصبحنا نملك دليلاً على أن المادة الدماغية البشرية أكثر غنى من النماذج الحيوانية المعتادة".
وإذا شئنا أن نعبر عن الموضوع بشكل أكثر دقة، فإن النتائج يمكن أن تلقي الضوء على كيفية توقُّع مجموعة من الأمراض العصبية، ومعالجتها منذ البدء أو منع استفحالها، كما أن هذا التعقيد للدماغ البشري يعني أيضاً أننا معرضون للكثير من الأمراض التي لا تصيب الحيوانات؛ يقول باكين: "إذا تبيَّن وجود علاقة بين خلايا روزهيب والأمراض الدماغية، فمن الممكن أن نصمم أدوات جينية لاستهداف هذا النوع من الخلايا لدراستها، وربما نستطيع في نهاية المطاف أن نعالج هذه الأمراض".
وقد يتعرض هذا العمل إلى صعوبة أخرى؛ حيث إن عدم وجود هذه الخلايا في نماذج حيوانية أخرى سيجعل من الصعب جداً أن ندرس دورها في معالجة بعض الأمراض مثل ألزهايمر والشيزوفرينيا بشكل أخلاقي، نظراً لاستحالة إجراء نفس الاختبارات على الفئران مثلاً. يقول تاماس: "نحن في ورطة؛ إذ ليس من السهل أن نفهم ما وظيفة هذه الخلايا، ولكن لدينا فرصة للقيام بهذا لاحقاً عن طريق دراسة هذه الخلايا عند مرضى مصابين بأمراض محددة"؛ حيث إن ربط ميزات التعبير الجيني لخلايا روزهيب مع العلامات الجينية المميزة للأمراض المعروفة قد يسمح لنا بمعرفة العلاقة بين هذه الخلايا وبعض الإصابات. وبالإضافة إلى دراسة ميزات عصبونات روزهيب ومسح التنوع في الخلايا الدماغية ضمن الطبقات القشرية، يقول تاماس إن فريقه يستعد لدراسة لاحقة حول دور خلايا روزهيب في مرض محدد من الأمراض العصبية النفسية عند البشر، ولكنه لم يفصح عن ماهية هذا المرض.
ويمكننا أن نقول -وفقاً لوجهة نظر معينة- إن النتائج تثير الأسئلة أكثر مما تجيب عنها؛ حيث يقول تاماس إن عصبونات روزهيب تمثل أولى الأنواع المعروفة من تلك العصبونات التي يتميز بها البشر، "ويوجد بعض العصبونات الأخرى الناشئة عند البشر، ولم ننشر عنها بعد". وقد تكون هذه الصورة الوردية الجديدة مجرد فاتحة لمجموعة كبيرة من الاكتشافات الجديدة.