يتجنب أكثر من 40% من الأميركيين تناول الملح، لكن الكثير منهم يفعل ذلك بشكل خاطئ؛ فغالباً ما يعتقدون أن من الواجب عليهم التوقف عن إضافة ملح المائدة للحدِّ من تناول الصوديوم، والحقيقة أنه حتى إذا استطاع الشخص العادي أن يتخلص من كل حبة ملح في مطبخه، فإنه لن يتخلص إلا من حوالي 11% من إجمالي استهلاكه من الملح.
كما أن العلم أيضاً مثير للجدل فيما يتعلق بالحاجة إلى تقليل الملح الذي نتناوله؛ حيث تزعم دراسةٌ حديثة في مجلة "ذا لانسيت" أن الكمية الحالية المُوصى بتناولها من الملح -وهي 5 جرامات في اليوم- آمنة تماماً، وأنه لا توجد حاجة إلى دفع الناس للتخفيف منها قدرَ الإمكان، في حين انتقد باحثون آخرون -في مجال أمراض القلب والأوعية الدموية- تلك الدراسة، مشيرين إلى أن هناك دراسة تمت في عام 2016 لنفس هؤلاء المؤلفين كانت تعاني من مشكلات جذرية مشابهة، وأن هذه الدراسة الحديثة لم تضع أياً منها في الاعتبار؛ فعلى سبيل المثال وجدت كلتا الدراستين أن الأشخاص الذين يتناولون كمية أقل من الملح لديهم مخاطر أكبر لحدوث الوفاة، وهو ما أشار إليه المؤلفون حين قالوا إن تناول الصوديوم باعتدال مفيد بالفعل، في حين أنهم لم يستطيعوا التسليم بصحة أن الأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية هم الذين يتناولون أقل قدر ممكن من الملح بناء على توصية أطبائهم، وأن هؤلاء الأشخاص أكثر عرضة للموت.
كما أن هناك بالتأكيد الكثير من الأبحاث التي تشير إلى أن تناول الملح يرتبط بارتفاع ضغط الدم، وكانت البلدان التي قامت بخفض المعدل الوسطي لاستهلاك الملح -مثل اليابان والمملكة المتحدة- قد شهدت انخفاضات مماثلة في معدلات السكتات الدماغية.
ولكن لنفترض أنك قرَّرت خفض استهلاك الملح، بسبب أن طبيبك مثلاً شدَّد في توصيتك بذلك (وهو ما يعني أنه معتمد على أكثر من مجرد دراسة واحدة حول الموضوع)، وحينئذٍ ستعلم أنك تستهلك ملحاً أكثر من الكمية اليومية الموصى بها، مما يجعل نتائج هذه الدراسة الأخيرة موضع نقاش، وفي كلتا الحالتين قد ترغب في التخلص من المِملحة والإقلاع عن هذه العادة، وهذا خطأ.
وذلك بسبب أن أحد التحديات الكبيرة في تقليل كمية الملح التي نأكلها يتمثل في حقيقة أن الصوديوم عنصر مراوغ؛ فنحن نفكر في استهلاكنا اليومي من الملح على أنه الكمية التي نضيفها منه أثناء الطهي، أو التي نضيفها على المائدة، كما تُدرِج بعض المؤسسات -مثل جمعية القلب الأميركية- توصيات مثل طهي المعكرونة دون ملح، أو استخدام البصل لتعزيز النكهة بدلاً من التوابل المملحة، ولكن كانت هناك -إلى جانب تلك التوصيات التي يسهل اتباعها- إحصائيات أكثر أهمية؛ حيث يأتي 71% من متوسط كمية استهلاك الأميركيين للملح من خارج منازلهم.
دعونا نحلل الموضوع.
من الصعب جداً فهم الأنماط الغذائية الحقيقية؛ حيث تعتمد الدراسات في كثير من الأحيان على المشاركين الذين يحتفظون بسجلات دقيقة عن كل ما يأكلونه، ثم تقدير الاستهلاك الفردي من العناصر الغذائية على أساس الأطعمة المدرجة، ومع ذلك فقد استخدمت دراستان -على وجه الخصوص- أساليبَ أكثر ذكاء.
فقد استخدمت دراسة أجريت عام 2017 مزيجاً من السجل الغذائي وعينات الملح، وطُلب من المشاركين ألا يكتبوا كل شيء يأكلونه فقط، بل أن يضيفوا نفس الكمية من الملح -التي يضيفونها إلى طعامهم (سواء عند طهيها أو عند إضافتها إلى أطباقهم)- إلى أكياس العينة، ثم قام الباحثون بقياس تلك العينات لمعرفة مقدار الملح الذي كان يضيفه كل شخص، ووجدوا أن 5% فقط من إجمالي تناول الصوديوم تم على المائدة، وتمت إضافة 6% خلال تحضير الطعام؛ أي ما مجموعه 11%، وهو أقل من 14% من الملح الموجود بشكل طبيعي في غذائنا، حتى الفواكه والخضار الطازجة تحتوي على الصوديوم؛ فالتفاحة تحتوي على 2 ملليجرام منه، ويحتوي كوب من الطماطم على 10 ملليجرام، وهذه العناصر الفردية تضيف إلى مجموع استهلاكنا من الملح، لكن الطعام المعالَج والمعد سابقاً يتفوق على المصادر الطبيعية؛ فحوالي 71% من الاستهلاك اليومي للملح للشخص العادي يأتي من الأغذية المعالجة والمطاعم.
وهذه الأرقام تختلف قليلاً عن دراسة سابقة؛ ففي عام 1991 قدَّم الباحثون في مركز مونيل للكيمياء الحيوية إلى المشتركين في الدراسة ممالح من نوع خاص، واحدة للمائدة وأخرى للطهي، وتم إلزام الجميع بحمل المملحة الخاصة بالمائدة في كل مكان، بحيث تكون أي كمية ملح أضافها كلٌّ منهم إلى طعامه من هذا المصدر؛ وفي نهاية كل أسبوع كان الباحثون يزنون كل مملحة لتحديد مقدار ما استهلكه الشخص منها، كما قاموا بتكرار التجربة مرتين من خلال تثبيت متتبع جزيئي للصوديوم، وهذا التتبع مكَّن العلماءَ من تحديد كمية الملح التي تناولها كل شخص من كل مملحة؛ لأننا نقيس كمية الملح الذي نتناوله عن طريق البول، وكل ما عليك فعله هو قياس كمية الصوديوم في البول، ثم معرفة الجزء الذي يحتوي على المتتبع الكيميائي، أي كمية الملح المضافة، وأي كمية أخرى تكون قد جاءت من خارج المنزل.
وقد وجد الباحثون أن 77% من الصوديوم الذي استهلكه المشاركون جاء من الأغذية المعالجة، و11.6% منه موجود بشكل طبيعي في الغذاء، و6.2% من ملح المائدة، و5.1% من الطهي.
وهذا قريب جداً من التقديرات الحديثة، خاصة إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى أن الأنماط الغذائية قد تغيرت خلال السنوات الفاصلة.
فمن أين إذن تأتي نسبة 71% إلى 77% من الملح؟ يقع بعض اللوم بالتأكيد على المطاعم؛ لأنها تميل إلى استخدام الملح والدهون في جرعات أعلى من معظم الطهاة في المنازل، ولكن أكثر ما يقع عليه اللوم هو الغذاء المعالج.
ولا توصي جمعية القلب الأميركية بأكثر من 2300 ملليجرام من الصوديوم في اليوم، في حين ترغب في أن ينخفض استهلاك كل منا إلى 1500 ملليجرام؛ أي ما يعادل ثلاثة أرباع ملعقة صغيرة، بينما يستهلك معظم الأميركيين فعلياً حوالي 3400 ملليجرام.
ومن السهل إدراك سبب أن معظم هذا الملح يأتي من الأطعمة سهلة التحضير عند النظر إلى بيانات العناصر الغذائية الموجودة على ملصقات الأطعمة، ومن ثم حساب الكمية الموجودة في كل وجبة؛ فمثلاً تصرِّح البيتزا من نوع "أوريجينال رايزنج فور كرست تشيز" من شركة دي جيورنو عن 670 ملليجرام من الصوديوم في كل قطعة من قطعها الست، وإذا افترضنا أن الشخص العادي سيأكل أكثر من شريحة واحدة من البيتزا المجمدة الصغيرة، فسيتناول أكثر من 2000 ملليجرام من الصوديوم في جلسة واحدة، ومثلاً العلبة الواحدة من حساء الطماطم من شركة كامبل تحتوي على 1200 ملليجرام من الملح، وتحتوي عبوة المعكرونة والجبنة التي تنتجها شركة ستوفر على 1720 ملليجرام، وإن تناول أي من هذه الأطعمة سيزوِّدك بالحد الطبيعي من الملح خلال اليوم، وما يتجاوز الـ 500 ملليجرام التي تحتاجها فعلياً ليقوم جسمك بوظائفه بشكل صحيح.
النبأ السار للذين يتطلَّعون إلى خفض الملح هو أن بإمكانهم أن يفقدوا مذاق الأطعمة المالحة؛ فعلى الرغم من أن الجميع يحب مذاق السكر -حتى الأطفال- فإن البشر عليهم أن يتعلَّموا حب الملح، وهذا يعني أننا نستطيع عكس هذه الرغبة الشديدة، ومن حسن الحظ أنك تستطيع فعل ذلك بإخفاء المملحة. ففي عام 2010 عندما أصدر معهد الطب مبادئ توجيهية حول كيفية الحد من تناول الصوديوم، ذكروا المنتجات المعالجة تحديداً، بصفتها عائقاً رئيسياً للحدِّ من تفضيل الأشخاص للأطعمة المالحة، كما لاحظ مؤلفو التقرير أن "التعرض المستمر لمستويات عالية من الملح في مصادر الغذاء يعزِّز غالباً تفضيلَ مستوى أعلى من استهلاكه"، وأن "البيئة تعزز التكيف مع تفضيل أعلى للملح، حتى بالنسبة للأفراد الذين يفضِّلون نمطاً غذائياً منخفض المحتوى من الصوديوم؛ لأن من الصعب عليهم الاستمرار في تجنب الاستهلاك غير المتعمَّد من الأطعمة التي تحتوي على كميات كبيرة من الملح المضاف".
ولكن من غير المحتمل أن يخفض مصنعو المواد الغذائية محتوى الصوديوم في منتجاتهم طواعية؛ فالملح -ببساطة- يحسن مذاق الطعام. وبالنسبة للسكر والملح والدهون نجد أن المؤلف مايكل موس يناقش كيفية استخدام الشركات للملح كـ "مثبت طعم عظيم"؛ فالكثير من الأطعمة سهلة التحضير طعمها سيئ جداً دون إضافة كميات من الملح، ولإثبات ذلك قام بعض الباحثين في شركة كيلوج بإصدار نسخ من منتجاتها الأكثر شعبية دون ملح؛ وكتب موس حينها: "كان طعم رقائق الذرة مثل برادة المعادن، وفطائر "الوافل" المجمدة من نوع "إيجو" مثل طعم القش، كما فقدت مكسرات الجبنة من نوع "تشيز إت" لونها الأصفر الذهبي، وتحوَّلت إلى اللون الأصفر الشاحب، وأصبحت دبقة عند المضغ. واختفت نكهة الزبدة من منتجات "كيبلر تاون هاوس لايت باتري كراكرز" التي لم تعد تحتوي على زبدة فعلية"، وأظهرت هذه المنتجات انحداراً في مبيعاتها؛ فلا توجد شركة ستضع شرائح لحم ذات طعم سيئ، حتى لو كان ذلك أفضل لصحة عملائها، وهذا يعني ببساطة أن عدم شراء هذه المنتجات يرجع إليك في المقام الأول.
وأخيراً عندما تتخلى عن الأطعمة المملحة في نظامك الغذائي، فستتعلم كيفية تقدير الأطعمة ذات الكمية الأقل من الصوديوم، وستصبح ملوحة تلك المنتجات نفسها بعد وقت قصير غير مستساغة لك، وستفقد رغبتك في تناولها، وفي غضون ذلك تستطيع الاستمرار في استخدام المملحة؛ ففي تلك الدراسة التي تمت في عام 1991 طُلب من الأشخاص المشاركين فيها أن يضيفوا قدر ما يريدون من الملح، فكانوا يضيفون فقط حوالي 800 ملليجرام؛ أي أقل بكثير من المستوى المثالي لاستهلاك الصوديوم البالغ 1500 ملليجرام، وإذا وصلتَ إلى هذا الحد، فخذ من المملحة كما تريد.