البعوض كائنات طائرة عجيبة، فالعصفور أو ذبابة الفاكهة، على سبيل المثال، يطيران بالقفز في الهواء، وبمجرد ارتفاعهما عالياً تبدأ أجنحتهما بالخفقان.
لكن طيران البعوض يختلف عن ذلك النمط بشكل محير، فهو يبدأ برفرفة أجنحته لمدة 30 ميلي ثانية قبل القفز في الهواء، ثم ينطلق محلقاً بمعدل رفرفة الأجنحة الذي يصل إلى 800 مرة في الثانية، بينما تضطر معظم الحشرات الأخرى بسبب حجمها الكبير أن يكون معدل رفرفة أجنحتها حوالي 200 مرة فقط.
يقول فلوريان ميجريس الباحث في علم الميكانيكا الحيوية من جامعة فاجينينجن في هولندا: "إن أحد الأسئلة الرئيسية التي تطرحها مجالات الديناميكا الهوائية والميكانيكا الحيوية هو لماذا يطير البعوض بهذه الطريقة غير الفعالة على ما يبدو؟". ميجريس هو أحد مؤلفي دراسة صدرت حديثاً في دورية "علم الأحياء التجريبي" والتي تبحث في السبب الذي جعل البعوض يطوّر مثل هذه الطريقة غير المعتادة من الطيران، والتي قد تكون طريقة متطورة للتهرب من الكشف.
وعلى وجه التحديد، فقد بحث ميجريس وزملاؤه في كيفية إقلاع البعوضة من نوع كيوليكس Culex (التي تحمل الملاريا و مرض زيكا مع الزاعجة المصرية) عندما يزداد وزنها مع وجبة الدم. الإناث فقط هي التي تمتص الدم، لأنها في حاجة إليه من أجل وضع البيض. لكن بعد أن تتغذى على دمائنا، غالباً ما تجد نفسها تحمل ضعفي أو ثلاثة أضعاف وزنها، وهي لا تزال بحاجة إلى الطيران.
يقول ميجريس: "تخيل لو كنت تحمل على ظهرك حقيبة تزن 50 أو 100 كيلوجرام، ثم عليك أن تطير، سيكون ذلك عملاً شاقاً جداً".
إذا أقلع البعوض بالطريقة التي تنتهجها الحشرات الأخرى، من خلال الضغط على الأرجل الخلفية للقفز، فسيطبق الكثير من الضغط على جلد مضيفه، بما يكفي ليجعله يحس به ويضربه، لهذا كانت حيلة رفرفة الجناح قبل الطيران، وهي ليست الحيلة الوحيدة التي يقوم بها البعوض.
يقول ميجريس: "الأمر الآخر الذي يميز البعوض هو سيقانه الطويلة جداً والتي يستطيع مدها وتوزيع الضغط عليها لفترة زمنية أطول".
والنتيجة النهائية هي أن مقدار القوة التي تبذلها على بشرتنا أقل بكثير من الحشرات الأخرى، مما يسمح لها بالحركة دون أن نشعر بها حتى وهي تنوء بحمولة دمنا.
وتوصل ميجريس وزملاؤه إلى هذا الاستنتاج من خلال مزيج من التصوير عالي السرعة والنمذجة. فقد ركبوا كاميرات عالية السرعة قادرة على تسجيل 30 ألف لقطة في الثانية، ثم قاموا بتصوير البعوض وهو يقلع للطيران مع ودون العبء الداخلي لوجبة الدم. وإذا كنت تتساءل من الذي قدم الدم للبعوض، فهو صوفيا تشانج من جامعة كاليفورنيا بيركلي، مؤلفة الدراسة. وقد تعرضت للسع من أجل الفريق، لأن البعوض يتغذى بسهولة أكبر على دم الإنسان من المغذيات الاصطناعية.
https://gfycat.com/ScalyElasticBellfrog
احتاج الباحثون إلى كاميرا سريعة للحصول على البيانات الضرورية، وكانوا بحاجة لالتقاط 20 صورة على الأقل لكل جناح (تذكر أن البعوضة تستطيع أن ترفرف بأجنحتها بسرعة تصل إلى 800 مرة في الثانية). وبفضل التصوير الفوتوجرافي عالي السرعة، تمكنوا من التقاط حركة البعوض بأكملها. وباستخدام قانون نيوتن الثاني (القوة = الكتلة x التسارع)، تمكنوا من معرفة مقدار قوة البعوض الكلية التي تم توليدها.
يسمح نموذج الديناميكية الهوائية للبعوضة بتحويل حركات الجناح إلى قوى ديناميكية هوائية. وعن طريق رفرفة أجنحتها قبل إقلاعها، تصبح البعوضة من نوع كيوليكس قادرة على توليد 60 في المائة من الطاقة التي تحتاجها للإقلاع.
يقول ميجريس: "يبدو الأمر كما لو أن البعوض تخصص في عمل مناورة الإقلاع التي تسمح له بتوليد القوى التي لا نستطيع كشفها. وهو ما يمكنه من أن يكون أكثر نجاحاً عندما يهرب من المضيف".
ويشكك ميجريس في أن نتائج الدراسة يمكن تطبيقها على أنواع أخرى من البعوض، ويرى أنها إذا حدث ذلك فسيكون أمراً باعثاً للكآبة. فبينما نعمل بجد لكشف البعوض وقتله، يعمل البعوض بنفس الجد ليقوم بلدغنا دون أن نحس به، إنها مطاردة لا تنتهي.