مطلع العام الماضي، قام مركز "البحث الكبير عن أرقام مرسين الأولية عبر الإنترنت GIMPS" بالولايات المتحدة الأميركية بالإعلان عن اكتشاف أكبر عدد أولي تم الوصول إليه وهو274,207,281-1 وإذا لم يكن هذا التعبير الرياضي كافياً للتعبير عن ضخامة الرقم يكفي القول بأنه يتكون من 22,338,618 خانة، أي أننا إذا أردنا كتابته، وكنا نحتاج لثانية واحدة لكتابة كل رقم فستستغرق العملية أكثر من ثمانية أشهر. وبينما ينظر بعض الأشخاص إلى هذا الاكتشاف على أنه مجرد ترف ويندرج ضمن الأخبار المنوعة، فإن خبراء أمن المعلومات يرون فيه أداة هامة لتشفير البيانات وذلك بالاعتماد على خوارزمية أر إس إي RSA.
تشفير البيانات
لتوضيح فكرة التشفير لنأخذ المثال التالي: يريد قيس إرسال رسالة إلى مها مع مراعاة عدم قدرة أحد غيرهما على قراءتها، سيعمل قيس على تبديل كل حرف برقم يعبر عن ترتيب هذا الرقم ضمن الأبجدية (أ=1، ب=2، ر=10، م=24 ....) فتصبح جملة: "تأجل اللقاء" "3 1 5 1 23 23 21 1 1" ثم سيقوم بإضافة الرقم 19 إلى كل رقم ناتج لتصبح الرسالة "22 20 24 20 42 42 40 20 20" ثم سيقوم بإرسالها إلى مها، لكن مها لن تتمكن من قراءة الرسالة ما لم تحصل على المفتاح والذي هو الرقم 19، لذا يجب إرسال هذا الرقم بشكل منفصل لضمان سرية العملية، وهكذا ستصل الرسالة بأمان دون الخوف من وقوعها بالأيدي الخطأ. هذه واحدة من أبسط طرق التشفير التي يمكن اعتمادها.
تطورت العملية لاحقاً لتتضمن مفتاحين أحدهما عام والآخر خاص، حيث يقوم المرسل بتشفير الرسالة بالمفتاح العام، ويقوم المستقبِل بفك تشفيرها بالمفتاح الخاص، مع وجود عملية تربط بين المفتاحين. وقد ظهرت خوارزمية تسمى خوارزمية أر إس إي RSA نسبة للأحرف الأولى من أسماء واضعيها، وهي تعتمد على كون المفتاحين عددين أوليين كبيرين جداً، يتم تشفير الرسالة بأحدهما ثم يتم ضربهما ببعض وإرسال ناتج الجداء إلى الطرف الآخر لكي يستخلص منه المفتاح الخاص، وحتى لو وقع جداء الرقمين بيد أحد الأشخاص فإنه لن يتمكن من معرفة الرقمين الأوليين اللذين نتج الرقم عنهما إلا بتجربة عدد كبير جداً من الاحتمالات، وهو ما يحتاج لوقت طويل.
لكن المعضلة هي أن الجهاز الخارق السرعة القادر على اكتشاف الأعداد الأولية الكبيرة وتوظيفها للتشفير ليس موجوداً فقط بين أيدي الجهات التي تتراسل، بل إن الجهات التي ترغب باعتراض الرسائل لديها أيضاً أجهزة بمثل هذه السرعة وبالتالي ستتمكن من فك الشيفرة عاجلاً أم آجلاً، لذا لا يمكن الاتكال على فكرة أن خبراء القرصنة سيملون وهم يجربون الاحتمالات المختلفة، يشبه الأمر المحاربة بالبنادق والافتراض أن الطرف الآخر لا يملك سوى السيوف.
التشفير الكمومي
أتت الفيزياء الكمومية بحل رائع لمشكلة تشفير البيانات، وذلك بالاعتماد على أحد مبادئ فيزياء الكم، والذي يقول بأن حالة كل جسيم مثل الفوتون هي عبارة عن مجموعة حالات متراكبة ما لم يتم رصدها. تخيل أنك تركت المنزل لعدة أشهر وقد تركت نبتتك المفضلة داخله، قبل عودتك للمنزل ستكون حالة النبتة غير محددة فهي حية/ميتة إلى حين فتح باب المنزل وتحديد الحالة الفعلية. كذلك الأمر عند التعامل مع الفوتونات، حيث يتم إرسالها وهي بحالة تراكب، ووحده الطرف المستقبل سيتمكن من فك التراكب وتحديد المفتاح الذي سيستخدم لفك تشفير الرسائل. وفي حال حاول أحدهم اعتراض الفوتونات فهي ستغير حالتها نتيجة الرصد وتعطيه معلومات خاطئة.
أواخر الشهر الماضي أعلن فريق من الباحثين بالمركز الكمومي بروسيا أنهم تمكنوا من تحقيق أو عملية تحويل إلكترونية آمنة وذلك باستخدام التشفير الكمومي، وقد تم تطبيق العملية على بنك غازبروم أحد اكبر مصارف روسيا والعمل جارٍ لتطبيقه على عدة مراكز مالية كبيرة.
يذكر أن تجارب مماثلة جرت في فيينا سنة 2004، وجنيف 2007، كما جرى أول استثمار تجاري للتشفير الكمومي سنة 2013 في الولايات المتحدة الأميركية. والعام الماضي أطلقت الصين قمراً اصطناعياً يعمل على تحويل عمليات الاتصال الكمومية إلى اتصالات فضائية، حيث أن تبادل الفوتونات من خلال القمر الاصطناعي هو أفضل للحفاظ على حالتها وعدم تعريضها للكثير من المشوشات الأرضية التي قد تواجهها.