عندما تزور ماير ني ليثلوبير مدينة جديدة، تجول على الأطباء البيطريين فيها، وتستفسر عن وجود أية كلاب تحمل أوراماً بشعة في الأعضاء التناسلية، وهي كتل تحمل عدوى أحد أغرب أنواع السرطان في العالم. وفي مختبرها، توجد خريطة على الحائط مع دبابيس تشير إلى الأماكن التي عثر فيها فريقها على حالات الأورام السرطانية، والتي تعرف أيضاً بالأورام التناسلية المعدية لدى الكلاب، أو "سي تي في تي CTVT" اختصاراً.
غير أن هذا السرطان لا ينشأ عن فيروس، مثلما يتسبب فيروس الورم الحليمي البشري بسرطان عنق الرحم لدى البشر. بدلاً من هذا، ينتقل سي تي في تي بين الكلاب عن طريق انتقال الخلايا السرطانية نفسها، كما تشرح ني ليثلوبير، وهي عالمة جينات في مجموعة السرطان القابل للانتقال في جامعة كامبريدج: "إن الأمر أشبه بالحصول على زرعة من نسيج مختلف، أو عملية نقل أعضاء، ولكن باستخدام ورم سرطاني".
بدلاً من رفض الورم بوصفه خطراً على الجسم، يتجاهل النظام المناعي للكلاب هذه الخلايا الغريبة. ومن المؤسف أنها ليست الحيوانات الوحيدة التي يقدم نظامها المناعي المساعدة للخلايا السرطانية المتطفلة. حيث أن حيوانات شيطان تسمانيا أيضاً تصاب بأورام تغطي الوجه وتشوهه، وتؤدي في نهاية المطاف إلى ميتة بشعة ومؤلمة لهذا الحيوان الجرابي. كما توجد أكثر من دزينة من أنواع الخلايا السرطانية في مياه البحر، والتي تصيب عدة أنواع من المحار والبطلينوس.
لا يعمل السرطان عادة بهذه الطريقة، بل ينشأ من خلايا متحولة تستنسخ نفسها باستمرار داخل الجسم، وتحوي هذه الخلايا السرطانية الدنا الخاص بالمصاب، كما أن السرطان عادة ما يموت بموت المصاب. وفي الظروف العادية، ليس من الممكن نقل السرطان إلى الآخرين، وستموت الخلايا السرطانية في نهاية المطاف، إلا إذا بذل الباحثون جهداً خاصاً للحفاظ عليها لغرض ما.
يعتبر السرطان القابل للانتقال حالة خاصة، لأنه على ما يبدو اكتشف وسيلة لتجنب الموت. وبدلاً من الاضمحلال مع المصاب الأصلي، تتمكن الخلايا من البقاء وبناء حياة خاصة لها، كما تقول إليزابيث مورتشيسون، والتي تترأس مجموعة السرطان القابل للانتقال. وعلى عكس الخلايا السرطانية العادية، لا تشترك هذه الخلايا في الجينات مع الحيوان المصاب بها، بل تحمل الدنا الخاص بالمصاب الأصلي حيث نشا هذا الداء الغريب المعدي.
في حالة الكلاب، تمكنت ني ليثلوبير وزملاؤها من تتبع مصدر سي تي في تي إلى كلب قديم عاش منذ آلاف السنين، وتقول: "يتم تناقل نفس قطعة الدنا التي أتت من ذلك الكلب الأصلي من كلب إلى كلب آخر، وهكذا دواليك. والآن، أصيب هذا الجينوم بملايين التحولات الإضافية، ولكنه ما زال يحتوي الدنا الأصلي من ذلك الكلب الأول".
لاحظ الناس منذ زمن وجود أورام بشعة يتم تناقلها بين الحيوانات الأليفة بشكل جنسي. ويعود أول ظهور مسجل لسي تي في تي إلى العام 1810، في كتاب حول أمراض الحيوانات من تأليف طبيب بيطري في لندن. وبعد بضعة عقود، نشر طبيب بيطري روسي ورقة يثبت فيها إمكانية نقل الأورام بين الكلاب. واستمر الناس بالعبث مع هذا المرض إلى بداية القرن العشرين، عندما التقط العلماء مجموعة من حيوانات الثعلب والقيوط وابن آوى، وحقنوها بسرطان الكلاب، وأثبتوا أن هذه الأورام يمكن أن تعيش لبعض الوقت في أنواع أخرى.
لم يعد أحد اليوم يجري الاختبارات على سرطان الكلاب المنتقل، ولكن الباحثين واجهوا هذا المرض في 90 بلداً، وفي جميع القارات باستثناء القارة القطبية الجنوبية. ويزداد انتشار المرض في المناطق التي لا يتم التحكم بتزاوج الكلاب فيها، مثل رومانيا، والمكسيك، والهند، وذلك وفقاً لني ليثلوبير. وفي كل ورم قامت المجموعة باختباره، تعود الجينات إلى مصدر واحد. تقول مورتشيسون: "لقد أخذنا آلاف العينات من هذه الأورام في مختلف أنحاء العالم، وجميعها أشبه بنسخ عن نفس المصدر. إنه أمر مذهل بالفعل".
أما في حالة شياطين تسمانيا، فيصبح الأمر أكثر تعقيداً. بدأت مورتشيسون بدراسة السرطان القابل للانتقال عندما سمعت عن داء ينتشر بين هذه الحيوانات، والتي تسكن في أستراليا حيث ترعرعت. وفي التسعينيات، بدأت أورام وجهية بالظهور لدى الشياطين، وهو مرض أدى إلى موتها بأعداد كبيرة. أما اليوم، فقد قضى السرطان على أكثر من 95% من تعدادها.
في البداية، شك الباحثون بوجود فيروس يتسبب بهذا السرطان. ولكن عندما درست مورتشيسون تتابع الدنا للخلايا السرطانية، وجدت أن الدنا فيها لا يوافق الدنا للحيوانات المصابة، وعندما قارنت الأورام لدى عدة حيوانات مصابة، وجدت أن تركيبها الجيني متطابق. وكما في حالة الكلاب، يبدو أن السرطان نشأ لدى إحدى الشياطين وانتشر في أنحاء الجزيرة.
بالنسبة للكلاب، فإن علاج الأورام رخيص وسهل. ويستخدم الأطباء البيطريون دواء أساسياً للعلاج الكيميائي للقضاء على الورم بشكل كامل. تقول مورتشيسون: "يعمل هذا الدواء كالسحر". ولكن في حالة شياطين تسمانيا، فإن التعامل مع المرض ليس بهذه البساطة، ولا يفيد استخدام نفس الدواء، ويعتقد الباحثون أن الشياطين ضعيفة بشكل خاص تجاه هذه الأنواع من السرطان.
أما السبب فهو نوع ثان من السرطان القابل للانتقال بين الشياطين، والذي اكتشفه فريق مورتشيسون في 2014. تقول مورتشيسون: "كان الأمر مفاجأة كبيرة". عندما اكتشف الباحثون السرطان لأول مرة، بدا من الممكن أن الشياطين كانت تحمل "اختلالاً في الطبيعة" بالصدفة، كما تشرح مورتشيسون. ولكن مع اكتشاف النوع الثاني من سرطان الشياطين: "بدأنا نفكر بأن هذا المرض ليس نادراً كما كنا نعتقد طوال الوقت".
إذا تطور السرطانان في العقود الأخيرة المنصرمة، فمن الممكن أن الحيوانات عاشت مع أمراض مماثلة لوقت طويل، كما تتوقع مورتشيسون. وقد يعود هذا إلى قلة التنوعات الجينية لدى الشياطين، ما يسهل على المرض تجاوز نظامها المناعي. كما أن هذه الحيوانات مولعة بمداعبة وجوه بعضها البعض، وهو ما قد يمثل أسلوباً محتملاً لانتقال المرض بسهولة.
بدراسة أعمق، يظهر أن السرطان المعدي يمكن أن يظهر بشكل متكرر في البيئة المناسبة. ففي 2015، اكتشف الباحثون وجود سرطان معدٍ في البحر. فقد كان هناك ما يؤثر على المادة الشبيهة بالدم في البطلينوس أملس الصدفة، ويتسبب بموت أعداد كبيرة منه. عادة ما يكون هذا السائل الذي يسري في أجسام هذه الكائنات صافي اللون، ولكن في الحيوانات المريضة، كان مليئاً بالخلايا الإضافية لدرجة أن منظره أصبح حليبياً.
قام ستيفن جوف، وهو أخصائي بعلم الأحياء الجزيئي في جامعة كولومبيا، بدراسة التركيب الجيني للبطلينوس والخلايا الموجودة في الدم، وظهرت لديه صورة مألوفة: "وجدنا أن جميع الأورام كانت متطابقة، وكأنها نسخة عن نفس الأصل. وهذا الأصل لم يطابق الحيوان المصاب من حيث الدنا. لقد ظهر هذا الورم مرة واحدة منذ زمن، وانتشر صعوداً وهبوطاً على طول الساحل الشرقي من بطلينوس إلى آخر".
شكل اكتشاف السرطان القابل للانتقال تحت الماء صدمة للباحثين. يقول مايكل ميتزجر، أخصائي آخر بعلم الأحياء الجزيئي في معهد نورث ويست باسيفيك للأبحاث، والذي عمل مع جوف على دراسة المرض: "منذ البداية، كان هذا التفسير بمثابة احتمال جانبي مستبعد، وأشبه بالجنوني". ولكنه لم يعتقد أن السرطان يمكن أن ينتشر بدون تماس مادي مباشر، في مخلوقات تختلف كلياً عن الكلاب والشياطين.
تواصل جوف وميتزجر مع المزيد من علماء الأحياء البحرية، وعلموا بوجود أمراض مماثلة لدى أنواع أخرى. وتبين أن الكوكل، والمحار، وغيرها من الصدفيات، كانت تعاني من أنواع خاصة بها من السرطان القابل للانتقال. وقد كانت إحدى الأنواع تعاني من نوعين من السرطان، تماماً مثل الشياطين، على حين أن نوعاً آخر كان يعاني من سرطان انتقل إلى نوع مختلف تماماً. يقول جوف: "هذا الأمر شائع الحدوث نوعاً ما".
بدراسة السرطانات التي يمكن أن تقفز بين الصدفيات، وتعبر القارات، وتنتقل بين شياطين تسمانيا التي تداعب وجوه بعضها البعض، يأمل الباحثون بتطبيق هذه النتائج على السرطانات البشرية. ونظراً لبقاء هذه الأمراض لأجيال عديدة، فهي تقدم فرصة لدراسة تطور السرطان، وهي ظاهرة لا يمكن دراستها في السرطان البشري قصير الأمد، كما تقول مورتشيسون.
إضافة إلى هذا، فإن السرطانات القابلة للانتقال توضح طبيعة العلاقة الإشكالية ما بين السرطان والمصاب، وذلك على نطاق كبير. حيث أن هذه الخلايا لا تصيب الكائن فحسب، بل إنها قادرة على تجنب المواجهة مع نظام مناعي جديد تماماً. يعتقد جوف أن هذا قد يعطينا بعض المعلومات حول انتشار السرطان البشري: "هذا الانتشار في المحيطات أشبه بنسخة مضخمة من انتشار السرطان داخل الجسم البشري".