العلماء يتجهون نحو استخدام الميكروبات في تصنيع النكهات والروائح

4 دقائق

هل تعلم بأن هناك شركة بريطانية تستطيع تحويل المواد الكيميائية الموجودة في ثمار البرتقال إلى نكهات غذائية بطعم الجريب فروت؟ نعم، إن ذلك حقيقة!

تعمل شركة أوكسفورد بايوترانس Oxford Biotrans على مزج مركبات كيميائية مُستخلصة من ثمار البرتقال مع جزيئات مُصنّعة من قبل أحياء مجهرية دقيقة، وتحصل بالنتيجة على نكهات طبيعية بطعم الجريب فروت، دون أن تضطر أبداً إلى فتح أو تقشير ثمرة جريب فروت واحدة!

ولكن مهلاً.. إنها ليست الشركة الوحيدة التي تمتلك هذه التقنية المجنونة! فهناك شركات أخرى تستخدم الميكروبات الدقيقة لصناعة مكوّن طبيعي من مكوّن طبيعي آخر أو لتشكيل روائح عطرية ونكهات موجودة طبيعياً في الورود أو غيرها من النباتات أو الحيوانات.

يقول جيسون كينج، المدير التنفيذي لشركة أوكسفورد بايوترانس: "يتزايد إقبال المستهلكين شيئاً فشيئاً على المنتجات الطبيعية دون سواها، وهو ما دفع الشركات للتنافس على تصنيع منتجات يُدوّن عليها عبارة: (خالٍ من المواد الصناعية) أو (منتج مُصنّع بالكامل من منتجات طبيعية)".

حسناً، يمكن للتكنولوجيا الحيوية أن تُساعد على تحقيق بعض هذه الغايات. ولكن ما هي آلية عملها، ومتى يمكن للعلماء استخدامها؟

دعونا نتحدث في البداية عن النكهات الطبيعية، وهي مواد كيميائية تُستخلص من مصادر طبيعية مثل الفواكه أو الحيوانات أو الخميرة أو أوراق الشجر أو البهارات أو غيرها من المواد البيولوجية، وذلك عن طريق التسخين أو التخمير أو غيرها من العمليات الطبيعية.

إذاً، ما هو الفرق بين النكهات الطبيعية والنكهات الصناعية؟ في الحقيقة فإن الفرق ليس كبيراً جداً! لأنها نفس المواد الكيميائية غير أنها مأخوذة من مصادر أخرى. ويشرح جاري رايناتشياس، الأستاذ بقسم علوم الغذاء والتغذية بجامعة مينيسوتا الأمريكية، ذلك بقوله: "تتخلّق النكهات الطبيعية بشكل مباشر في ثمرة التفاح أو البرتقال أو الخوخ أو غيرها، أما النكهات الصناعية فهي نفس النكهات الطبيعية غير أنها تُصنّع بوسائل كيميائية مختلفة".

ويُضيف رايناتشياس: "كلا النكهتين الطبيعية والصناعية يمكن تحضيرهما مخبرياً من قبل اختصاصين في علوم الكيمياء، إذ لا يمكنك ببساطة أن تجلب ثمرة برتقال وتقطعها وتمزجها مع الأطعمة المختلفة لكي تحصل على مُنتجات غذائية بطعم البرتقال! بل ينبغي عليك أولاً استخلاص النكهة وعزلها كي تتمكن من استخدامها".

ومع ذلك، يقول رايناتشياس أن النكهات الطبيعية والاصطناعية لا تتشابه مطلقاً مع بعضها، فالنكهات الصناعية تكون أبسط ومُصنّعة فقط من المواد التي تأكد العلماء من صلاحيتها للاستهلاك البشري، أما النكهات الطبيعية فقد تحتوي ما يقرب من 1000 مكون كيميائي، ولكن بضعة مكونات منها تكفي لإعادة إنتاج نفس النكهة في المختبر.

يقول رايناتشياس: "كثيراً ما تساور الشكوك الناس تجاه المكونات الصناعية في الأغذية. وفي الحقيقة فإن بعض المكونات الصناعية، مثل الملونات الغذائية الصناعية، تختلف كُلياً في تركيبها وطريقة تصنيعها عن الملونات الغذائية الطبيعية. ففي

النكهات الغذائية يتطلب الأمر منك استخدام مواد كيميائية محددة بالتراكيز ذاتها الموجودة في الثمار الطبيعية، وهو ما لا ينطبق دوماً على حالة الملونات الغذائية".

في العموم، تكون النكهات الصناعية أقل تكلفة من النكهات الطبيعية، مع وجود حالات تكون فيها النكهات الصناعية مُكلفة للغاية، مثل مادة النوتكاتون Nootkatone المُستخدمة لإضفاء رائحة وطعم فاكهة الجريب فروت على أطعمة مختلفة، وذلك بسبب ارتفاع تكاليف تصنيعها.

يتوفر النوتكاتون في العديد من المصادر حول العالم، ولكن النوتكاتون المُسختلص من ثمار الجريب فروت يكون مُكلفاً وغير متوفر بشكل دائم. إذ يحتاج تصنيع كيلوغرام واحد من النوتكاتون إلى حوالي 400 ألف كيلوغرام من الجريب فروت، فضلاً عن أن محاصيل الجريب فروت لا تكون وفيرةً كما هو الحال مع محاصيل البرتقال على سبيل المثال.

ولعمل نكهة الجريب فروت الطبيعية، تقوم شركة أوكسفورد بايوترانس بعزل مادة كيميائية تُدعى فالينسين valencene من البرتقال، ومن ثم تستخدم نوعاً محدداً من الإنزيمات البكتيرية أو النباتية أو الحيوانية. والإنزيمات هي جزيئات تستخدمها الكائنات الحية لتسريع حدوث التفاعلات الكيميائية داخل أجسامها. وقد قام فريق البحث بإدخال تحسينات على تركيب تلك الإنزيمات، وسخّر بكتريا مُعدلة وراثياً من الإشريكية القولونية E. coli لتنفيذ تلك المهمة.

وعند مزج الفالينسين مع الإنزيم المُحسن، يُحفز الإنزيم تفاعلاً كيميائياً يُضيف عنصر الأوكسجين إلى نكهة البرتقال، مما يعطيها نكهة النوتكاتون. ويقول كينج عن ذلك: "إنها ذات العملية التي تحدث داخل خلايا ثمرة الجريب فروت بصورة طبيعية، ولكننا نقوم بها خارج تلك الخلايا".

وبحسب كينج، فإن النسخة الصناعية من النوتكاتون تُصنّع من البرتقال أيضاً، ولكنها تعتمد على مواد كيميائية لإضافة الأوكسجين إلى الفالينسين وليس على إنزيمات بكتيرية، ولذلك فهي طريقة غير فعالة جداً ومتدنية الجودة.

هناك أيضاً وسائل أخرى تستخدم فيها الميكروبات لاستخراج النكهات الطبيعية من الثمار. فقد جرى استخدام الخميرة لتصنيع مادة الفانيلين التي تُعطي الفانيلا نكهتها المميزة. وتقوم شركة جينكغو بايووركس Ginkgo Bioworks بتعديل فطريات دقيقة وراثياً بهدف إنتاج مركبات مختلفة في أثناء عملية التخمير. تقوم هذه الفطريات بتحفيز الخميرة على صناعة مواد تُدعى اللاكتونات lactones، والتي تدخل في صناعة جميع أشكال العطور، وذلك كبديل عن الكحول (المنتج الثانوي الأكثر شهرةً لعملية التخمير). كما يقوم العلماء بتحديد الإنزيمات التي تستخدمها النباتات لإنتاج زيت الزهور، وتوظيف الخميرة لإعادة إنتاج تلك الإنزيمات.

تقول لارا ستون، الخبيرة بشركة جينكغو بايووركس: "يتفوق استخدام الإنزيمات والميكروبات ببعض الميزات الإضافية على استخلاص النكهة مباشرةً من الثمار الطبيعية، إذ إنّ المحاصيل الزراعية قد تتفاوت جودتها من عام لآخر، في حين أن عملية التخمير الصناعية تمتاز بثبات أكبر بغض النظر عن سنة صناعتها. كما يمكن من خلال التخمير الصناعي إنتاج مواد نادرة، مثل العنبر، وهو مادة عطرية نفيسة تُستخرج من جوف حوت العنبر، فضلاً عن أن الخمائر قادرة على التكاثر واستنساخ نفسها".

وفي بعض الأحيان، يكون استخدام الطرائق الحيوية في إنتاج النكهات أكثر فعالية من الطرائق الكيميائية البحتة. تقول ستون: "يزداد تعقيد إنتاج النكهة بطريق كيميائي بحت بحسب تعقيد الجزيء الخاص بها، فكلما كان الجزيء أكثر تعقيداً كلما كانت عملية إنتاجه أكثر صعوبة. أما في الطرائق الحيوية فإننا نترك تلك المهمة للمُحفزات البيولوجية والإنزيمات).

تقول كريستينا آجاباكيس، المديرة الإبداعية بشركة جينكغو بايووركس: "من جهة أخرى، يمكن لاستخدام الميكروبات أو الإنزيمات أن تُمكن المُصنعين من التحكم أكثر بالعطور أو النكهات التي يُنتجونها. فمن الممكن أن تؤدي العمليات الإنزيمية أو الحيوية إلى إنتاج مكونات جديدة مميزة لا يمكن تصنيعها بالوسائل الكيميائية القديمة.

ويبقى السؤال: ما هي الطريقة الأفضل لصناعة النكهات أو العطور، هل هي الطريقة الحيوية الحديثة أم الكيميائية التقليدية؟ والإجابة أن ذلك يعتمد على النكهة أو العطر بحد ذاته من جهة، وعلى وجه استخدامه من جهة أخرى. وسواءً كانت طريقة استخلاص النكهة أو العطر كيميائية أو حيوية، فإن العلماء قادرين في النهاية على تقديمها ضمن منتج آمن صحياً.

المحتوى محمي