الكشف عن أسرار النظام الملاحي الداخلي في أدمغة الجرذان

2 دقائق
جُرَذ أبيض يربض فوق إناء زجاجي نحن نلجأ إلى القوى الدماغية نفسها لإدراك اتجاهاتنا حقوق الصورة: ديبوزيت فوتوز

هل سبق أن نزلْتَ من فوق الحزام المتحرك لجهاز المشي في صالة التمرين – أو حزام البساط المتحرك في المطار – فشعرت بأن كل ما حولك يمضي بإيقاعٍ مختلف؟ يحاول علماءٌ من جامعة جون هوبكنز تفسير هذا الشعور المُخادِع، واستكشاف تفاصيل ما يدور بأدمغة الجُرذان، وبأدمغتنا.

يشترك دماغ الجُرَذ مع الدماغ البشري في امتلاك الجزء المعروف بالحُصَيْن، وهو جزء من الدماغ يتعامل مع الذاكرة والتوجيه، تستوطنه بعض الخلايا العصبية – المعروفة بخلايا المكان – التي تُطلق إشاراتها في أدمغة الجرذان، وأدمغتنا أيضاً، عند الشعور بالعودة إلى مكانٍ مألوف. تنطلق هذه الإشارات تحديداً عند تمييز جزء بعينه من ذلك المكان المألوف يُعرَف بحَقل المكان. أما ما يُسبِّب تكوين حقول المكان هذه في الدماغ فلم يُفهَم بعد تماماً، لكن الدراسة الجديدة تحاول إلقاء بعض الضوء على هذا اللغز.

قام الباحثون بتصميم قُبَّة تضم تحتها منضدة دائرية صغيرة تصلح لاستقبال صور مبثوثة لعلامات مكانية مميزة، ثم أُطلِقَت الجرذان تحت القبة وتحت المراقبة الحيَّة لنشاط حُصَيْنات أدمغتها لتحديد مجموعات الخلايا العصبية التي ستستجيب لمؤثرات حقول المكان.

يقول الدكتور "مانو ماداف" الباحث في العلوم العصبية والهندسة الميكانيكية بجامعة جون هوبكنز: "بثثنا صوراً لثلاث علامات مميزة، وكانت الجرذان تركض في مسارات دائرية، ولم تكن العلامات تتحرك على الإطلاق في البداية". في هذه المرحلة تصرَّفَت الخلايا العصبية في أدمغة الجرذان على النحو المتوقَّع تماماً؛ فكانت استجابات خلايا المكان تُسَجَّل عند مواضع ثابتة من المنضدة، في دلالةٍ على تمييز الجرذان للأماكن.

لكنَّ الباحثين شَرَعوا في المرحلة التالية بتحريك العلامات المميزة. لتقريب ما حدث تخيَّلْ أن الجرذان أصبَحَت أبطالاً لإحدى ألعاب الكمبيوتر التي تُرى فيها الموجودات من المنظور الشخصي للبطل. بالمِثل كان المشهد أمام الجرذان يتشوَّش في حركةٍ زائفة أثناء ركضها نحو العلامات، حيث تلاعب الباحثون بحركة الصور لإيهام الجرذان بأنها تعدو أسرع أو أبطأ من سرعتها الحقيقية. وفي المرحلة الأخيرة قام الباحثون بضبط سرعة الصور مع سرعة الجرذان تماماً بحيث بدا للجرذان أنها لا تعدو على الإطلاق.

وهكذا قادَت التجربة إلى الكشف المفاجئ. كان الباحثون يتوقعون أن ذلك الوهم البصري سيؤثر على خلايا المكان في الدماغ فتتخبطها الحيرة بشأن موقع الجرذان من المكان، وهذا لأن الجرذان، مثلنا، تستوعب ما حولها بالقياس المستمر لموقعها على مواقع الأشياء المحيطة. وبالتالي كانت تغذيتها بمُعطَيات بصرية مُضَلِّلة، ومُوحِية بالحركة بسرعات تختلف عن السرعة الواقعية، ستجعل خلايا المكان – سمِّها نظام الملاحة الداخلي إن شئت – تُعيد التقييم والحسابات، أو هكذا يُفتَرَض.

لكن ما لم يتوقعه الباحثون هو أن تمتد عمليات إعادة التقييم هذه لتشمل كذلك المرحلة الثالثة؛ التي خَيَّلَت فيها حركةُ العلامات للجرذان أنها لا تتحرك، رغم مخالفة ذلك للواقع الصريح. يقول "ماداف": "كنا نتوقع أن تتوقف خلايا المكان عن المعايرة وإعادة التقييم عند نقطة ما في هذه المرحلة، لكنها كانت مُصِرَّة – فيما يبدو – على إخبار الجرذان الراكضة بأنها متوقفة في مكانها!" نعرف نحن البشر شعوراً قريباً من هذا عندما نخطو أولى خطواتنا خروجاً من البساط المتحرك في المطار، فيغمرنا فقدانٌ مؤقَّت للإحساس بالمكان.

من اللافت للنظر كذلك أنه عندما حاول الباحثون إخفاء العلامات المميزة كُلِّياً لم يرصدوا تغييرات تُذكَر في نشاط حُصَيْنات أدمغة الجرذان.

قد يُظَنُّ أن هذه ليست إلا ملحوظة عابرة، لكن أهمية خلايا المكان تتجاوز كونها نظام ملاحتنا الداخلي. فالأبحاث تطرح أن لخلايا المكان كذلك دوراً محورياً في عملية تكوين الذاكرة، وبالتالي قد يَفتح فهمُ كيفية عمل ذلك الجزء من الدماغ آفاقاً بحثية بلا نهاية؛ من تطوير علاجات جديدة كُلِّياً لمرض الزهايمر إلى تصميم روبوتات بكفاءة غير مسبوقة.

هكذا ندرك الأهمية الحقيقة لهذا البحث الذي يستقصي كيفية عمل خلايا المكان، وأسباب تكوينها لحقول المكان. يقول خبراء العلوم العصبية أن خلايا المكان تلعب دوراً ما في تذكُّر الأماكن والطُّرُق بالقياس النسبي إلى وجهات نَظَرنا، لكن لم يكن من المعروف على وجه الدقة إن كانت تلك الخلايا تَنشَط تأثُّراً برؤية العلامات البصرية المميزة أم كجزءٍ من عمليةِ تسجيلِ الطُّرُق وتخزينها في الذاكرة للجوء إليها عند الحاجة. وقد أظهَرَت هذه الدراسة أن الجرذان تعتمد بشكل كبير على العلامات البصرية في إدراك طُرُقها ومعرفة مواقع أجسامها بالقياس إلى المواقع الأخرى المَوْسُومة بعلامات التمييز.

المحتوى محمي