خلال الحملة الفرنسية على مصر، وعندما كان الجنود الفرنسيون يعملون على ترميم أحد الحصون بالقرب من نهر رشيد، لاحظ جندي وجود حجر كبير مميز عن بقية الأحجار، وعندما تفحصه عن قرب لاحظ أن كتابات غريبة قد نقشت عليه، ليتبين فيما بعد أنه نص مكتوب بثلاث لغات منها الهيروغليفية واليونانية، وكان هذا الحجر الذي يعرف اليوم بحجر رشيد كافياً بالنسبة للباحث الفرنسي جان فرانسوا شامبليون لكي يفك شيفرة اللغة الهيروغليفية ويفتح آفاقاً بحثية كانت مستحيلة قبل هذا الاكتشاف.
واليوم بعد أكثر من 200 سنة على عملية فك الشيفرة اللغوية، عمل باحثون ألمان على فك الشيفرة الجينية للمومياءات المصرية، وذلك للإجابة عن بعض الأسئلة التي تتعلق بالسلالات المصرية القديمة، والأصول الغابرة للمصريين.
قام الفريق البحثي الذي ضم باحثين من جامعة توبنجن ومعهد ماكس بلانك بألمانيا، بجمع عينات من منطقة أبو صير الملق بمنطقة الصعيد، وذلك من 151 مومياء تعود للفترة مابين 1388 ق.م و426 ميلادي لاستخلاص الحمض النووي DNA والموجود داخل ميتوكوندريا الخلايا. وبعد التحليل تم فرز عينات الـ DNA غير المتضررة والتي بلغ عددها 90 عينة.
الـ DNA الموجود في الميتوكوندريا هو مهم لدراسة الأسلاف لكنه يعاني من قصور هام، فهو يختلف عن DNA النواة بأنه ينتقل من الأم فقط ولا يعطي أي فكرة عن DNA الأب. لذلك حرص الباحثون على الحصول على الأحماض الموجودة في نواة الخلية والتي تنتقل من الأم والأب، وقد نجحوا استخلاصها من 3 مومياءات، وبذلك تم إضافة أداة هامة لدعم سير العملية البحثية.
وضعت العينات التي جمعت من 50 غرام من المسحوق العظمي المأخوذ من جمجمة وأسنان المومياءات، ومن 100 غرام من أنسجتها، داخل غرفة خاصة بجامعة توبنجن وقد تم تعريضها للأشعة فوق البنفسجية لمدة ساعة وذلك لمنع أي تلوث إشعاعي.
بعد تحليل العينات ومقارنتها بمجموعات أخرى موجودة في الجامعة ومع عينات جمعت من 100 من المصريين المعاصرين و125 من سكان أثيوبيا، توصل الباحثون إلى أن المصريين القدماء تربطهم صلات قوية مع الشعوب الموجودة في حوض المتوسط وخاصة بلاد الشام والأناضول وجزء من أوروبا.
أما المصريين الحاليين فقد تبين أنهم أقرب بنسبة 8% للأفارقة الموجودين جنوب الصحراء من الأوروبيين، ويمكن تفسير ذلك بالتجارة التي كانت مزدهرة منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، بين مصر وجنوبها، خاصة أثيوبيا والمناطق المجاورة.
مما لا شك فيه أن هذه الدراسة ليست دقيقة 100% نظراً لكونها تعتمد على عينات من منطقة واحدة، لذا قد يكون هناك تعزيز لهذه النتائج عن طريق إجراء تحليل للمزيد من العينات الموجودة في مناطق متفرقة، كما أن البحث الذي أظهر تدفق للجينات الإفريقية لم يحدد متى بدأ هذا التدفق.
هذا البحث الذي نشر بـ 30 مايو على الموقع الإلكتروني لمجلة ناتشر Nature، أثبت عدم صحة الاعتقاد السائد بالأوساط العلمية، والذي يقول بعدم جدوى دراسة الحمض النووي الذي يعود لعصور قديمة، على اعتبار أنه سيكون قد تعرض للكثير من التشويه بفعل الإشعاع وعوامل المناخ والحرارة وغيرها، وربما سيشجع مراكز بحثية أخرى على الاستفادة من الهدايا التي قدمها المصريين القدماء عندما قاموا بتحنيط موتاهم.