انتقام فيثاغورس: الرياضيات ليست اختراعاً بشريّاً بل مكونٌ رئيسي للواقع

يعتقد الكثيرون أن الرياضيات هي اختراع بشري. بالنسبة للذين يعتقدون هذا، فالرياضيات هي لغة، إذ إنها تصف أشياء حقيقية في العالم، ولكنها غير «موجودة» خارج عقول الأشخاص الذين يستخدمونها.

لكن حملت مدرسة فيثاغورس الفكرية في اليونان القديمة معتقدات أخرى، إذ اعتقد أنصارها أن الواقع هو رياضي بطبيعته.

بعد أكثر من ألفي عام، بدأ الفلاسفة والرياضيون بأخذ هذه الفكرة على محمل الجد.

كما أُحاجج في ورقة جديدة بأن الرياضيات هي مكوّن أساسي للطبيعة، يمنح العالم المادي بنيته.

نحل العسل والمسدّسات

يصنع النحل في خلاياه أقراصاً سداسية الشكل. لماذا؟

وفقاً لـ «حدسية أقراص العسل» الرياضية، المسدّسات هي الأشكال الأكثر كفاءة في تغطية كامل المستوي. إذا كنت تريد أن تغطّي سطحاً مستوياً ما باستخدام شكل منتظم، مع الحفاظ على الطول الكلي للمحيط أقل ما يمكن، فالمسدسات هي أفضل خيار.

الرياضيات — استخدام الشكل السداسي المنتظم لأقراص العسل هو الطريقة الأكفأ في تغطية المستوي. حقوق الصورة: سام بارون.

حاجج «تشارلز داروين» أن النحل تطوّر لاستخدام هذا الشكل لأنه ينتج أكبر خلايا ممكنة لتخزين العسل مع استهلاك أقل كمية ممكنة من الطاقة لإنتاج الشمع.

اقتُرحت حدسية أقراص العسل لأول مرة قديماً، ولكن تم إثبات صحتها عام 1999 على يد الرياضي «توماس هيلز».

الزيزان والأعداد الأولية

إليك مثال آخر. هناك نوعان فرعيان لزيزان أميركا الشمالية التي تعيش معظم حياتها على الأرض. كل 13 أو 17 عاماً (اعتماداً على النوع)، تظهر هذه الحشرات على شكل أسراب كبيرة لمدة أسبوعين تقريباً.

لماذا يحدث ذلك كل 13 أو 17 عاماً؟ لماذا هذه الفترة ليست 12 و14 عاماً؟ أو 16 و18 عاماً؟

يعتمد أحد التفسيرات على حقيقة أن الرقمين 13 و17 هما عددان أوليّان.

تخيّل وجود مفترسات للزيزان تقضي أيضاً معظم حياتها على الأرض. يجب على الزيزان أن تخرج من الأرض عندما تكون مفترساتها غير موجودة.

افترض وجود مفترسات لها دورات حياة تمتد لـ 2 و3 و4 و5 و6 و7 و8 و9 سنوات. ما هي أفضل طريقة لتجنّب كل هذه المفترسات؟

لنقارن دورة حياة تمتد 13 سنة مع أخرى تمتد 12 سنة. عندما تخرج الزيزان ذات دورة الحياة التي تمتد 12 سنة من الأرض، ستكون المفترسات ذات دورات الحياة التي تمتد سنتين و3، و4 سنين موجودة أيضاً، وذلك لأن العدد 12 يقبل القسمة على الأعداد 2 و3 و4.

عندما تخرج الزيزان التي لها دورة حياة تمتد 13 سنة من الأرض، لا تكون هناك أي أنواع من المفترسات موجودة، وذلك لأن العدد 13 لا يقبل القسمة على الأعداد 2 و3 و4 و5 و6 و7 و8 و9 وينطبق نفس الأمر على العدد 17.

يبدو أن هذه الزيزان تطوّرت لتستغل حقائق أساسية تتعلق بالأعداد.

الرياضيات: اختراع أم اكتشاف؟

بمجرد أن نبدأ في البحث، من السهل العثور على أمثلة أخرى. من شكل أغشية الصابون، إلى تصميم التروس في المحركات، إلى موقع وحجم الفجوات بين حلقات كوكب زحل، الرياضيات موجودة في كل مكان.

إذا كانت الرياضيات تفسر الكثير من الأشياء التي نراها حولنا، فمن المرجح أن تكون شيئاً اخترعناه. الخيار الآخر هو أن الحقائق الرياضية تُكتشف، وليس فقط عن طريق البشر، بل الحشرات أيضاً، وفقاعات الصابون والمحركات والكواكب.

ماذا كان يعتقد أفلاطون؟

لكن إذا كنا نكتشف شيئاً، فما هو؟

امتلك الفيلسوف اليوناني القديم «أفلاطون» جواباً لهذا السؤال. اعتقد أفلاطون أن الرياضيات تصف الأشياء التي تكون موجودة بالفعل.

بالنسبة لأفلاطون، شملت هذه الأشياء الأعداد والأشكال الهندسية. اليوم، قد نضيف كائنات رياضية أكثر تعقيداً إلى هذه القائمة، مثل المجموعات والأصناف والتوابع والحقول والحلقات.

اعتقد أفلاطون أيضاً أن الكائنات الرياضية توجد خارج المكان والزمان. ولكن هذا الاعتقاد يزيد من تعقيد لغز تفسير الرياضيات للواقع.

يتضمن تفسير شيء ما إظهار الطريقة التي يعتمد فيها هذا الشيء على شيء آخر. إذا كانت الكائنات الرياضية توجد في مستوى منفصل عن العالم المادي الذي نعيش فيه، فلا يفترض أن تكون متعلقة بأي شيء مادي.

مدرسة فيثاغورس الفكرية

اتفق أنصار مدرسة فيثاغورس الفكرية مع أفلاطون على أن الرياضيات تصف عالماً من الكائنات. لكن، على عكس أفلاطون، لم يعتقد هؤلاء أن الكائنات الرياضية توجد خارج المكان والزمان.

بدلاً من ذلك، اعتقدوا أن الواقع يتألف من كائنات رياضية، مثلما تتشكّل المادة من الذرات.

إذا كان الواقع يتشكّل من كائنات رياضية، فمن السهل فهم أن الرياضيات تلعب دوراً في تفسير العالم من حولنا.

في العقد المنصرم، قدّم فيزيائيان محاججات قوية تدعم مدرسة فيثاغورس الفكرية: عالم الكون السويدي الأميركي «ماكس تيغمارك»، والفيلسوفة والفيزيائية الأسترالية «جين مكدونل».

يحاجج تيغمارك أن الواقع هو كائن رياضي كبير بحد ذاته. إذا كانت تبدو هذه الفكرة غريبة، خذ بعين الاعتبار الفكرة التي تنص على أن الواقع هو محاكاة. المحاكاة هي برنامج حاسوبي، وهي كائن رياضي نوعاً ما.

وجهة نظر مكدونل جذرية أكثر، إذ أنها تعتقد أن الواقع يتألف من كائنات رياضية وأدمغة. الرياضيات هي الطريقة التي يُدرك بها الكون نفسه، كما أن الكون يعتبر كائناً واعياً وفق هذه النظرة.

أنا أعتقد بوجهة نظر مختلفة: العالم يتألف من جزئين، الرياضيات والمادة. الرياضيات تمنح المادة شكلها، والمادة تمنح الرياضيات ماهيّتها.

تمنح الكائنات الرياضية إطاراً بنيوياً للعالم المادي.

مستقبل الرياضيات

من المنطقي أن تصبح مدرسة فيثاغورس الفكرية أكثر رواجاً في الفيزياء اليوم.

أصبحت الفيزياء في القرن المنصرم رياضية أكثر فأكثر، إذ أصبحت تعتمد بشكل متزايد على مجالات تبدو مجرّدة مثل «نظرية الزُّمر» و«الهندسة التفاضلية» بهدف تفسير العالم المادي.

مع الاختفاء التدريجي للحد الفاصل بين الرياضيات والفيزياء، يصبح تحديد أي الأجزاء من العالم مادية أو رياضية أمراً صعباً. إن تجاهل الفلاسفة مدرسة فيثاغورس الفكرية لفترة طويلة هو أمر غريب بالفعل. أعتقد أن هذا على وشك أن يتغيّر. حان الوقت لإحداث ثورة فيثاغورسية تعد بتغيير فهمنا للواقع.