تعتبر الجسور وسيلتنا لترقيع الفجوات في الأرض والتي لا نستطيع عبورها بأجسادنا الضعيفة. إنها أشبه باللصاقات الطبية بين الجبال، أو الغرز التي تصل ما بين ضفاف الأنهار الكبيرة، على شكل وصلات مؤقتة من الفولاذ والحجر، وتدوم فقط ما دمنا نعتني بها.
قد تكون بعض الجسور منجزات هائلة هندسية تتحمل كل الظروف، ولكن البعض الآخر مصمم بشكل رقيق ليتحمل الخطوات البشرية وحسب، لا وسائل النقل ذات الدواليب والمحركات. وعلى الرغم من أن هذه الجسور تشجع حركة البشر، إلا أن تصميمها لا يتيح لها أن تتحرك هي أيضاً إلا فيما ندر.
ولكن توجد بعض الاستثناءات. وأتذكر كيف اضطربت معدتي عندما كنت في الصف الخامس، وقرر أحد الأولاد في غمرة حماسه أن يقفز بشكل متكرر على جسر مايل هاي المعلق، وأخذت أحدق في الهوة أسفل الجسر والتي يبلغ عمقها 24 متر. أحسست بأن الجسر الفولاذي المعلق كان جديراً باسمه، حيث أخذ يتحرك وأنا أتمسك بالدرابزين. وبعد عدة سنوات، مشيت على جسر ميلينيوم في لندن، وقد بدا ثابتاً وصلباً بما يكفي ليحمل مجموعة من فناني الشوارع الذين يؤدون حيلهم وفقراتهم أمام الجماهير فوق نهر التايمز.
غير أن جسر ميلينيوم كان معروفاً بأنه يتحرك في أوقات مفاجئة. وعند افتتاحه في عام 2000، اندفع الناس بالآلاف للمشي عليه، ولكن أثناء ذلك، بدأ الجسر بالاهتزاز من جهة إلى جهة. وتوجد لقطات فيديو ليوم الافتتاح توضح ما حدث.
يقول إيجور بيليك، بروفسور الرياضيات التطبيقية في جامعة جورجيا الحكومية: "يمكن أن ترى جميع الناس وقد بدأت خطواتهم تنتظم وحركتهم تأخذ نفس الإيقاع، ومن ثم يبدأ الجسر بالتحرك بشكل واضح". ليست الجسور المهتزة بالأمر الذي يرغب المهندسون برؤيته، ولهذا أغلق الجسر فورياً للإصلاحات.
قام بيليك بتأليف ورقة بحثية نشرت في دورية "ساينس أدفانسز" لدراسة جسر ميلينيوم وغيره من الجسور، مثل جسر سكويب في بروكلين، والذي أعيد افتتاحه مؤخراً بعد أن أصيب هو الآخر بنوبة من الاهتزازات.
يعرف بيليك والمؤلفون المشاركون معه، بالاعتماد على دراسات سابقة، أنه من الممكن استخدام نموذج بسيط للمشية البشرية (أشبه بحركة شخصية جامدة بطيئة من أفلام الرعب) لدراسة التفاعل ما بين الشخص والجسر.
عندما يمشي شخص على جسر، خصوصاً إذا كان الجسر خفيفاً مثل الجسور المخصصة للمشاة، فإن قدميه تدفعان الجسر نحو الأسفل، ويمكن أن يغير من مشيته ليطابق الحركة الخفيفة للجسر أيضاً. يقول بيليك: "بفرض أنك على متن قارب، ستمشي بشكل طبيعي إذا كان القارب ثابتاً، أما إذا كان يهتز مع العاصفة، فسوف تعدل من مشيتك للحفاظ على توازنك".
يحدث نفس الشي على الجسر، ولكن بشكل أخف، حيث يقوم الناس بدون قصد بتعديل حركتهم حتى تتوافق مع الاهتزازات الخفيفة للجسر. وعند الدوس على القدم اليمنى، يدفعون بالجسر نحو اليمين، وعند الدوس على القدم اليسرى، يدفعون بالجسر نحو اليسار. يمين، يسار، يمين، يسار.
وهنا يأتي دور الدراسة الجديدة. ففي الحالة الطبيعية، عندما يمشي الشخص على جسر متين البنية، لن تكون القوة التي يؤثر بها على الجسر ذات أهمية. أما عندما يجتمع أكثر من شخص، يمكن أن يحدث الكثير. وقد وجد بيليك أنه عندما يغير الناس من مشيتهم بأعداد كبيرة، مع وجود ما يكفي منهم على الجسر للتأثير عليه بقوة كافية، يمكن أن يتسببوا بالاهتزاز. وهو ما يختلف عن الفرضية القديمة التي تقول بأن الاهتزاز يزداد تدريجياً بمجرد ازدياد عدد الأشخاص الذين يمشون على الجسر. ولكن وفقاً للدراسة الجديدة، فإن تزايد الاهتزاز ليس تدريجياً، ولن يحدث إلا بعد أن يتجاوز عدد الأشخاص الذين يؤثرون على الجسر حداً معيناً. في حالة جسر ميلينيوم، كان هذا العدد 165 تقريباً.
يقول بيليك: "عندما كان هناك 164 شخصاً على الجسر، لم يحدث شيء، وفجأة بدأ بالاهتزاز عند إضافة شخص أو اثنين. إنها علاقة شديدة التعقيد".
غير أن بيليك وزملاؤه توصلوا إلى نموذج رياضي يسمح للمهندسين ومصممي الجسور بحساب عدد الأشخاص الذين يمكنهم عبور الجسر بأمان، ويأملون بأن يحل محل النماذج الخطية المستخدمة حالياً لتقييم تصاميم جسور المشاة في الولايات المتحدة.
يعود هذا إلى أن اهتزاز الجسور ليس فقط شيئاً مزعجاً للمشاة. فإذا توافق تردد حركة المشاة مع التردد الطبيعي للجسر –التردد الذي يميل الجسر للاهتزاز وفقه- يمكن أن تحدث بعض الأشياء غير المتوقعة، بما في ذلك الانهيار.
يمكن حل هذا باتخاذ العديد من الإجراءات الوقائية، مثل المخمدات الميكانيكية التي تمتص القوة التي يؤثر بها المشاة على الجسر. غير أن المصممين والمهندسين لا يرغبون بتعقيد التصميم كثيراً.
يقول بيليك: "مشكلة جسور المشاة أنها بنيت لتكون خفيفة. ما الداعي لبناء جسر أسمنتي ضخم؟ سيكون أمراً مبالغاً فيه، ومرتفع التكلفة".
إضافة إلى العمل مع المهندسين من أجل اعتماد هذا النموذج في عملهم، يتعاون بيليك مع الباحثين في جامعة بريستول لحل لغز آخر يتعلق بالجسور. وعلى الرغم من أن الحركة المتزامنة للمشاة كانت تعتبر سبب اهتزاز الجسور في الماضي، فإنه لا يوجد دليل على أن المشي بحركة مثالية التزامن (مثل مجموعة من الجنود) يمكن أن تثير اهتزاز الجسر. ويبدو أن الاهتزاز يعتمد على عدد المشاة أكثر من اعتماده على تزامن حركتهم، ولكن تحديد السبب بالضبط يتطلب المزيد من الأبحاث.
يمكن أن نعتبر الجسور وغيرها من البنى بمثابة تجارب ضخمة ومكلفة، تجمع ما بين الفيزياء، وعلوم المواد، والسلوك البشري. ويعتبر كشف العيوب في هذه التصاميم قبل أن تتسبب بالمشاكل جزءاً كبيراً من عملية البناء. لقد تعلمنا أنه يجب أن نتحقق من أن الأبنية ذات الزجاج المنحني لن تتسبب بتذويب السيارات الواقفة قريباً منها، وأن ناطحات السحاب في نيويورك لن تطير مع الرياح، وأن التلوث سيلون المبنى بطبقة جميلة اللون بدلاً من مجرد إصابته بالصدأ.
أما بالنسبة للجسور، فنحن نأمل أن تحول معرفتنا بما الذي يجعلها تهتز دون انهيارها.