غالباً ما تكون ليلة منعشة البرودة على المريخ أكثر دفئاً من أمسية في شهر يوليو في شرق القارة القطبية الجنوبية. يقع أبرد مكان في الأرض فوق الهضبة الشرقية في القطب الجنوبي، على ارتفاع أكثر من 3 كيلومتر فوق سطح البحر. ولكن هذه البرودة ليست محصورة بموضع واحد، بل تمتد على منطقة بمساحة إنديانا، حيث يتجمع أبرد هواء في العالم ضمن الوديان قليلة الانحدار. ويجب أن تبقى السماء صافية وهادئة وجافة على الأقل لأربعة أيام متواصلة حتى تنخفض الحرارة إلى أقل من 90 درجة مئوية تحت الصفر، وذلك وفقاً لبحث نشر مؤخراً في مجلة Geophysical Research Letters.
كان العلماء يعرفون بشكل تقريبي أين يمكن العثور على أخفض حرارة، في مكان ما قرب محطة فوستوك، وهي مركز أبحاث روسي سجل فيه رقم قياسي للبرودة في 1983 حيث بلغت الحرارة 89.2 درجة مئوية تحت الصفر. ولكنهم لم يعرفوا المكان بالضبط أو مقدار البرودة فيه. يقول ماثيو لازارا، وهو أخصائي بالأرصاد الجوية في جامعة ويسكونسن-ماديسون وأحد مؤلفي الدراسة: "لطالما أثار سلوك الحرارة اهتمامنا. وفي القارة القطبية الجنوبية، ما زلنا نجهل الكثير من الأساسيات". وقد اكتشف فريقه الشروط الضرورية للحصول على أقصى تجمد ممكن في المكان الصحيح. يقول لازارا: "قد تظن أن أخفض درجات الحرارة يجب أن تكون على قمم الجبال، غير أن الهواء البارد أشبه بكرة ثقيلة، ولا بد أن يتدحرج إلى الأسفل".
ولكن الانحدار خفيف للغاية على تلك الصفيحة الجليدية الهائلة، كما يشرح تيد سكامبوس، وهو أخصائي بالجليد في جامعة كولورادو في بولدر، والمؤلف الأساسي للدراسة: "إذا وقفت في ذلك المكان، فسوف تظن أنني أمزح معك، لأنه يبدو مسطحاً تماماً". غير أن وصول الهواء إلى أبرد حالاته لا يتطلب أكثر من ذلك الانحدار الخفيف في تلك المساحة الشاسعة. لم يذهب الفريق إلى القارة القطبية الجنوبية في أبرد أيامها في يوليو وأغسطس، بل قاموا بتحليل البيانات من قمرين اصطناعيين تابعين لناسا، ومقارنتها مع القياسات الأرضية في محطات بحثية في القارة القطبية الجنوبية. وعلى مدى 12 عام، انخفضت الحرارة إلى أقصى درجة من البرودة، ما بين 97.8 و98.8 درجة مئوية تحت الصفر أكثر من مائة مرة.
قبل هذه الدراسة، لم يعتقد الباحثون أن الأقمار الاصطناعية قادرة على التقاط أكثر درجات الحرارة برودة على سطح الأرض. يقول سكامبوس: "يفترض الجميع أن أبرد شيء يمكن رؤيته من الأعلى هو سحاب السمحاق" (السمحاق هو سحاب جليدي على ارتفاعات عالية). ولكن عندما تفحص القراءات فوق الهضبة، كانت تتوافق بشكل واضح مع تغيرات التضاريس. يتابع سكامبوس: "تبدو السحابة على شكل خطوط، ولا تشبه سطح الأرض".
يعتقد سكامبوس أن درجات الحرارة الأخفض بقليل من 98.3 درجة مئوية تحت الصفر تعتبر الحد الأصغر لمجال درجات الحرارة الطبيعية على الكوكب. وعند هذه الدرجات المتطرفة، تصبح وتيرة انخفاض درجة الحرارة بطيئة وحساسة لدرجة أن أي نسمة كفيلة بتحريك الهواء الأقل برودة، وتشويش انخفاض الحرارة. يشرح لازارا قائلاً: "عندما تهب الريح، تلعب دور خفاقة الحلوى، لأنها تخلط الهواء، وبالتالي يستحيل الوصول إلى درجة حرارة منخفضة قياسية في ليلة تهب فيها الرياح".
ولا يمكن أن تنخفض الحرارة إلى أقصى ما يمكن من البرودة إلا بعد بضعة ليالٍ قطبية ساكنة. ويكمن الموضع الأكثر برودة ضمن مساحة هائلة تمتد على مئات الكيلومترات حول القطب الجنوبي. يقول سكامبوس: "إن التواجد في هذا المكان يمنحك بشكل ما إحساساً باللانهاية. إنها منطقة هائلة، ببساطة".
هذه المنطقة ليست بعيدة عن القطب الداخلي في القارة القطبية الجنوبية (القطب الداخلي هو مركز أكبر دائرة يمكن رسمها ضمن المنطقة المعنية دون المرور بشاطئ بحري، ويمكن استخدام هذا التعريف مع اليابسة ومع المحيطات)، وهو المكان الأبعد عن جميع المحيطات التي تقع حول هذه القارة. وهناك، ينتصب تمثال نصفي للينين بارزاً في وسط المنطقة الجرداء. قام فريق من العلماء السوفييت بسحب التمثال عبر الجليد في 1958 إلى مكانه لتتويج محطتهم البحثية التي لم تستمر لوقت طويل. يقبع المبنى مدفوناً تحت الثلج حالياً، ولكن ما زال التمثال البلاستيكي ظاهراً للعيان. يقول أتسوهيرو موتو، جيوفيزيائي في جامعة تيمبل، وشارك في العمل على البحث: "ما زال التمثال في مكانه، بدون أي تغيير. ولقد تحول إلى ما يشبه الوجهة لمستكشفي القطب الجنوبي".
يجري معظم العلماء المختصين بالقارة القطبية الجنوبية أبحاثهم الميدانية خلال فصل الصيف في النصف الجنوبي للكرة الأرضية، والذي يبدأ مع بداية عطلة عيد الميلاد. وحتى في ذلك الوقت، يبقى الهواء قارس البرودة. يقول سكامبوس: "يبلغ البرد أحياناً حداً يصيبنا بما يشبه الشلل، ويمنعنا من مواصلة العمل". ويقول أنه من السهل الإصابة بالتثلج في طرف الأنف أو الأصابع: "هذا أمر متوقع وطبيعي في هذه الأماكن".
يضيف سكامبوس أن الأمور تصبح أقل سوءاً عندما ترتفع الحرارة إلى حوالي 34.4 درجة مئوية تحت الصفر: "تمنحك الشمس إحساساً قريباً من الدفء. على الأقل، لن تحس بأن بشرتك تتعرض للتعذيب".