دراسة وراثية تهدف لضمان استدامة المعكرونة كغذاء عالمي

3 دقائق
اكتشاف الأسرار الجينية للقمح الذي نحصل منه على المعكرونة. حقوق الصورة: DepositPhotos

من «الكُسْكسي - Couscous» إلى معكرونة «الكوراليني - Corallini»، يستمتع الناس في جميع أنحاء العالم بالأطعمة المصنوعة من القمح القاسي، ويُسمّى أيضاً «قمح المعكرونة - Pasta Wheat»، وهو أحد أكثر أنواع الحبوب شيوعاً.

قام مجموعة من العلماء مؤخراً بخطوة كبيرة لضمان استدامة القمح القاسي، واستمرار بقائه كمصدر غذائي يعتمد عليه الكثير من الناس حول العالم. فقد نشر الباحثون دراسة في دورية «نيتشر جينيتكس - Nature Genetics»، تكشف عن تسلسل الحمض النووي للقمح القاسي.

يقول «كورتيس بوزنياك - Curtis Pozniak»، العالم المختصّ بالقمح في جامعة ساسكاتشوان، وأحد مؤلفي الدراسة: "تعتبر هذه الدراسة بحق ثمرة تعاونٍ دولي. شارك في الدراسة عدد هائل من العلماء بلغ 68 باحثاً، من مؤسسات مختلفة في إيطاليا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة وأستراليا وتركيا ودول أخرى". ويشير بوزنياك إلى أن جهود تحليل تتابع الحمض النووي نشأت عن مجموعة عمل دولية مختصة بعلوم القمح القاسي.

الجينوم المرجعي

مِثل العديد من المحاصيل الأساسية، حظِي القمح القاسي بالكثير من الاهتمام من العلماء الذين عملوا في اتجاهات متعددة من بينها مكافحة الأمراض التي يتعرّض القمح لها، وزيادة إنتاجية المحاصيل، ومحاولة جعل النبات أكثر صلابة. وقد قرّرت المجموعة الدولية أن تكون الأولوية الكبرى التالية هي تقديم جينوم مرجعي عالي الجودة للقمح القاسي. يقول بوزنياك: «إنها المرة الأولى التي نرى فيها كلَّ جينات القمح القاسي مرتّبةً بشكلٍ صحيح».

وشأن أي جينوم مرجعي آخر، مثل الشعير وقمح الخبز، يُمثل الجينوم المرجعي للقمح القاسي المخطط الأساسي لمكونات مادته الوراثية. يُسهّل مثل هذا المخطط للعلماء التعامل مع جينوم النبات، وفهم ما يحدث داخله، ويُمكّنهم من إجراء تغييرات، سواءً عن طريق التهجين التقليدي أو التعديل الجيني.

بإمكان هذه التغييرات أن تُساعد على جعل القمح أكثر صلابة، وأغنى بالعناصر الغذائية، وذي مذاقٍ أفضل، أو تساعد حتى في المحافظة على اللون الأصفر للقمح الذي نربطه جميعاً بالمعكرونة. ويستطيع العلماء كذلك خلطه ببعض العناصر من المحتوى الجيني لأنواع القمح الأخرى، مثل قمح الخبز والشعير والسلالات البرية المقاربة له. قد يساعد ذلك الباحثين على مواجهة مشكلة نقص التنوّع الوراثي التي تجعل العديد من المحاصيل عُرضةً لأي نوعٍ من التغيير، سواءً كان ناتجاً عن تغيرٍ في الطقس، أو بسبب الإصابة بالأمراض.

ويرجع هذا النقص في التنوّع الوراثي إلى تعرض أجيالٍ عديدة من القمح القاسي لتهجينٍ زراعيٍّ مُركّز، بهدف استنباط صفاتٍ محددةٍ مع تجاهل الصحة الوراثية للمحصول ككل. وعن طريق إضافة جيناتٍ من السلالات البرية المقاربة له، أو من سلالة قمحٍ محليةٍ أخرى، قد يتمكّن العلماء من مساعدة النبات على زيادة تنوّعه الوراثي؛ ليصبح أكثر صلابة.

لقد بدأنا نرى بالفعل بعض الاستخدامات المفيدة لجينوم القمح القاسي: حيث استخدمه الفريق الدولي لتحديد الجين المسؤول عن امتصاص الكادميوم -وهو معدن ثقيل- من التربة. فأصبح بالإمكان حماية الناس من التسمم بالمعادن الثقيلة عن طريق اختيار أنواع فرعية من القمح القاسي، تحتوي على عدد أقل من نسخ ذلك الجين.

صعوبة الكشف عن تتابع جينوم القمح القاسي

لكن الوصول إلى هذه النقطة لم يكن أمراً هيّناً. فمنذ البداية، كنا نعلم أن القمح القاسي يحتوي على أربع أضعاف عدد الجينات الموجودة في الجينوم البشري، وهذا يعني أنه يحتوي على كميّةٍ كبيرة من المادة الوراثية التي يتوجّب تحليلُها. وبشكلٍ عام، تمتلك النباتات محتوىً جينياً أكبر بكثير مما لدى الحيوانات.

وبالنسبة للقمح، فقد أُدْخِلت عليه جيناتٌ جديدةٌ من أنواعٍ بريّةٍ مختلفةٍ عدة مرات أثناء محاولة استنباط سلالات محليّة منه، وتركت كلُّ عملية تهجينٍ بعض الحمض الوراثي النووي خلفها. بالإضافة إلى ذلك، فإن القمح القاسي رباعي الصيغة الصِّبغيّة، مما يعني أنه يحتوي على أربع مجموعات من الكروموسومات، تحمل معلوماته الوراثية بدلاً من مجموعتين فقط مثل ما لدى البشر ومعظم الحيوانات.

هناك ما هو أكثر من ذلك، حيث يقول بوزنياك: إن جينوم القمح القاسي يتكوَّن من نوعين فرعيين مرتبطين للغاية ببعضهما البعض. ونظراً لأن عملية تحديد التتابع الجينيّ، تعتمد على تقسيم الجينوم إلى أجزاء صغيرة، وتحليل تسلسل كل جزء منها، ثم إعادة تجميعها معاً، لذا لن يكون من السهل تحديد النوع الفرعيّ الذي تنتمي إليه كلُّ قطعةٍ. قد يبدو الأمر وكأنه محاولةٌ لحل لغزين متشابهين للغاية من ألغاز ترتيب الصور المُقطعة، بينما جميع قطع اللغزين مختلطةٌ معاً في مجموعةٍ واحدة. وما يجعل الأمر أكثر تعقيداً، أن جينوم القمح القاسي يحتوي على مقاطع كثيرة متكرّرة، وهي تتابعات من الحمض النووي، يتكرّر ظهورها مراراً وتكراراً. يقول بوزنياك، إن الحمض النووي: «قد يبدو متطابقاً تقريباً في جميع أجزاء الجينوم»، لكن كل تتابع يختلف اختلافاً ضئيلاً عن الباقي، وينتمي كل منها إلى منطقة مختلفة من الجينوم.

تتاح قواعد بيانات تتابع جينوم القمح القاسي مجاناً على الإنترنت، ويستطيع أي شخص الوصول إليها. ويرى «كريم عمار» من المركز الدولي لتحسين الذرة والقمح أن إتاحة الوصول لتلك البيانات أمرٌ مهمٌّ. فقد استخدم عمار وزملاؤه الجينوم المرجعي بالفعل في عملهم بهدف خلق سلالات من القمح القاسي، تكون أكثر مقاومة للأمراض.

ويرى أن الخطوة التالية هي أخذ سلالات مختلفة من القمح القاسي، وتحليل جميع تتابعات الحمض النووي لها، وهي مهمة صار إنجازها أسرع بكثيرٍ، بفضل وجود الجينوم المرجعي، ممّا يمكّنهم بعد ذلك من البدء في مقارنة خصائص كلٍ منها. وسواء كان الحديث عن علم القمح أو غيره، فكما هو الحال في جميع مناحي الحياة، كلما زادت معرفتنا، كان ذلك أفضل.

المحتوى محمي