علم الفلك والأهرامات: من أين جاءت المعرفة الفلكية وقتها؟

4 دقائق
حصاد العلوم اليوم 9 سبتمبر 2024
حقوق الصورة: ريكاردو ليبراتو/ ويكيميديا، وفق رخصة المشاع الإبداعي BY-ND

منذ أن تمكن البشر من النظر إلى السماء، ونحن مأخوذون بجمالها وألغازها التي لا تعد ولا تحصى. من الطبيعي إذاً أن يوصف علم الفلك في كثير من الأحيان بأنه أقدم العلوم، حيث بقي يلهم الناس لآلاف السنين.

وتَرِدُ الظواهر السماوية ضمن لوحات الكهوف التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. ويبدو أن الصروح الأثرية كالأهرامات العظيمة في الجيزة، وموقع ستونهينج تتماشى بدقة مع النقاط السماوية أو مع حالات تموضع القمر والشمس والنجوم في الأفق.

واليوم، يبدو أننا نسعى جاهدين لنتخيل كيف تمكن القدماء من بناء وتوجيه مثل هذه الهياكل. وقد أفضى بنا هذا الأمر إلى العديد من الافتراضات، حيث يقترح البعض أنه لا بد من أن الناس قبل التاريخ امتلكوا بعض المعارف في الرياضيات والعلوم للقيام بذلك، في حين يذهب آخرون إلى حد التكهن بأن زواراً من الكائنات الفضائية أظهروا لهم كيفية القيام بذلك.

ولكن ما الذي نعرفه حقيقةً عن كيفية فهم الناس للسماء في الماضي وتطويرهم لعلم الكونيات؟ يبدو أن هناك فرعاً علمياً يسمى "علم الآثار الفلكي" أو "علم الفلك الثقافي" قد بدأ بتقديم الأفكار والإيضاحات.

يضم هذا الموضوع مجالات تخصصية مختلفة، مثل علم الفلك، علم الآثار، علم الإنسان، وعلم الفلك الإثني (العِرقي).

أساليب مُبسّطة

تعتبر أهرامات مصر من أكثر المعالم الأثرية القديمة إثارةً للإعجاب، والعديد منها موجه بدقة عالية. أجرى عالم المصريات فليندر بيتري أول مسح دقيق للغاية لأهرامات الجيزة في القرن التاسع عشر. حيث اكتشف أن كلاً من الحواف الأربع لقواعد الأهرامات يشير إلى اتجاه سماوي في حدود ربع درجة.

ولكن، كيف تمكن المصريون من معرفة ذلك؟ مؤخراً، اقترح جلين داش، وهو مهندس يدرس أهرامات الجيزة، نظرية بهذا الخصوص. حيث يعتمد على طريقة "الدائرة الهندية" القديمة، والتي لا تتطلب سوى عصا ظل مستقيمة وخيط لإنشاء اتجاه من الشرق إلى الغرب. وقد أوضح إمكانية استخدام هذه الطريقة في بناء الأهرامات بالرغم من بساطتها.

فهل هذا ما كان عليه الحال؟ لا يبدو الأمر مستحيلاً، ولكننا نواجه في هذه النقطة خطر الوقوع في فخ شائع يتعلق بانعكاس رؤيتنا الحالية للعالم، وما لدينا من أساليب وأفكار على حضارات الماضي. من المرجح أن الاطلاع على الأساطير والأساليب ذات الصلة التي عُرفت واستخدمت في ذلك الوقت، سيقدم إجابة أكثر موثوقية.

منظر الشمس وهو يبدو من موقع ستونهينج.
حقوق الصورة: سايمون ويكفيلد/ وفق رخصة المشاع الإبداعي BY-SA

لا تعد هذه المرة الأولى التي يقفز فيها العلماء إلى استنتاجات حول وجود نهج علمي يمكن تطبيقه على حضارات الماضي، فقد حدث شيء مماثل بخصوص موقع ستونهينج. ففي 1964، قام الفلكي الراحل جيرالد هوكينز بتطوير طريقة معقدة لاستخدام الحفر والعلامات في الصرح الغامض للتوقع بأوقات الكسوف، ولكن هذا لا يعني أن ستونهينج بُني حتى يستخدم بهذه الطريقة.

الطريق إلى الأمام

حتى نفهم الماضي، يجب أن ندعم فكرتنا بمقاربات متنوعة تنتمي إلى اختصاصات مختلفة. كما يجب أن نضع نُصْبَ أعيننا أنه لن يكون هناك تفسير أو جواب وحيد عن طريقة توجيه أو استخدام هذا النُّصُب.

إذاً، كيف يمكن لعلم الفلك الثقافي أن يفسر توجيه الأهرامات؟ تقترح دراسة من 2001 أن نجمي ميجريز (المغرز) وفاد (الفخذة) في كوكبة الدب الأكبر قد يكونان المفتاح لحل اللغز. يمكن رؤية هذين النجمين طوال الليل، كما أن أخفض موقع لهما في السماء خلال الليل يمكن أن يستخدم لتحديد الشمال بالاستعانة بالميرخيت، وهي أداة قديمة لقياس الوقت تتألف من قضيب مع خيط شاقول متصل بمقبض خشبي لتتبع اتجاه النجوم.

يتميز هذا التفسير بأنه يرتبط بالأساطير القديمة حول النجوم والتي ذكرت في النقوش والكتابات في معبد الإله حوروس في إدفو، والتي تشرح بالتفصيل كيفية استخدام الميرخيت كأداة للمسح الفلكي، وهي تقنية يمكن أن تفسر أيضاً كيفية توجيه مواقع مصرية أخرى. تتضمن النقوش الحرف الهيروغليفي "ساق الثور الأمامية"، والذي يمثل كوكبة الدب الأكبر وموقعها المحتمل في السماء.

استخدام نجمي ميجريز وفاد في كوكبة الدب الأكبر للتراصف مع اتجاه الشمال السماوي (خط الطول موضح باللون البرتقالي) وفق محاكاة للعام 2562 قبل الميلاد.
مصدر الصورة: دانييل براون

بشكل مشابه، تم تقديم أفكار أفضل حول ستونهينج. فقد كشفت إحدى الدراسات عن وجود دوائر خشبية غريبة قرب النصب، واقترحت أنها قد تمثل الأحياء، على حين تمثل أحجار ستونهينج الأموات. وقد شوهدت ممارسات مماثلة في صروح أخرى في مدغشقر، ما يشير إلى أن البشر ما قبل التاريخ كانوا جميعاً يفكرون بالأحياء والأموات بنفس الطريقة. كما يقدم هذا التفسير طريقة جديدة ومثيرة لفهم ستونهينج ضمن نطاقها المحيط بها. أما آخرون فقد اعتبروا أن ستونهينج، خصوصاً الطريق المؤدي إليها، تمثل طقساً للعبور إلى العالم السفلي مع منظر القمر على الأفق.

ساعد علم الفلك الثقافي أيضاً على إلقاء بعض الضوء على بعض من قبور العبور التي يبلغ عمرها حوالي 6,000 سنة في البرتغال، وهذا القبر عبارة عن مدفن مؤلف من غرفة مبنية من الأحجار المتراصفة ذات مدخل طويل وضيق. وقد أثبت عالم الآثار فابيو سيلفا أن المنظر من داخل القبر يظهر وكأنه إطار يحوي الأفق فوق منطقة جبلية حيث يشرق نجم الدبران. قد يعني هذا أن القبر بني خصيصاً لرؤية النجم بهذه الطريقة من الداخل، إما للأحياء أو الأموات، وربما كان ذلك طقساً لتلقين المبادئ ومنح العضوية.

عمل ميداني في أحد قبور العبور في دولما دا أوكرا في البرتغال. ويظهر إلى جانب البناء الحجري خيمة لمحاكاة المنظر من داخل مدخل القبر.
مصدر الصورة: دانييل براون

غير أن سيلفا يعتمد في استنتاجاته على نطاق أوسع من الأدلة. حيث أن المنطقة الجبلية الظاهرة ضمن الإطار هي على الأرجح وجهة هجرة بناء القبور مع مواشيهم لفترة الصيف. يشرق نجم الدبران لأول مرة هنا في السنة، بما يعرف بالشروق النجمي، خلال بداية هذه الهجرة. ومن المثير للاهتمام أن الفولكلور القديم يذكر راعي أغنام في هذه المنطقة رأى نجماً ساطعاً لدرجة أنه أنار الجبال. وعندما وصل إلى هناك قرر أن يسمي تلك المنطقة وكلبه تيمناً بهذا النجم، وما زال كلا الاسمين موجودين حتى الآن.

يظهر العمل الحالي الذي أقوم به بالاشتراك مع سيلفا أن المنظر من داخل المداخل الطويلة الضيقة لهذه القبور قد يتيح رؤية أفضل للنجم، وذلك بسبب ضيق فتحة الرؤية.

قد يكون من السهل الافتراض بأن القدماء كانوا فلكيين ذوي قدرات تحليلية كبيرة ومعرفة علمية واسعة، ولكن من المهم أن نتذكر أن هذا يعكس وجهات نظرنا الحديثة حول علم الفلك، وتظهر اكتشافات علم الفلك الثقافي أن الناس في الماضي كانوا فعلاً يحبون مراقبة السماء ويدمجون مشاهداتهم ضمن الكثير من نواحي حياتهم. ما زال مغزى وأصل الكثير من الصروح القديمة محاطاً بالغموض، ولكننا بدأنا نقترب من تفسير هذه الألغاز، وذلك بالاعتماد على كل ما يمكن من الاختصاصات والأساليب، بما في ذلك التجارب والخوض في المعاني البعيدة والعميقة لهذه الصروح.

المحتوى محمي