عند الإصابة بأي نوع من الجراثيم، ما أول شيء يصفه الطبيب لك؟ عادةً ستكون الإجابة "مضاداً حيويّاً"، لكن هل تعلم من الذي وراء هذا الاكتشاف الذي استطاع التغلب على أقوى أنواع البكتيريا والفطريات وخلص البشر من آلام وأمراض عديدة؟
في يوم 11 مارس/آذار 1955، تُوفي السيد "ألكسندر فليمنج"، عن عمر ناهز الـ 73، إثر نوبة قلبية في بيته في لندن. لم يكن السيد فليمنج شخصية عادية، فقد كان عالماً كبيراً ارتبط اسمه باكتشاف البنسلين الذي أحدث ضجة علمية كبرى في القرن العشرين.
اكتشاف البنسلين: الصدفة هي اللاعب الأبرز
إذا نظرت إلى قائمة الاكتشافات العلمية وليدة الصدفة، ستجد اكتشاف البنسلين على رأس تلك القائمة. وبدأت قصته في يوم 3 سبتمبر/أيلول 1928، عندما عاد ألكسندر فليمنج إلى مختبره بعد إجازة، ولاحظ شيئاً غريباً، لقد تم تثبيط نمو بكتيريا "المكورات العنقودية الذهبية" (Staphylococcus aureus)، وعندما دقق النظر أكثر، وجدها تنمو بالقرب من فطر يُسمى "أقحوان البنسليوم" (Penicillium notatum). من ذلك استنتج أنّ هناك مادة يفرزها الفطر، تُثبط نمو البكتيريا، وفكّر في أنه يمكن استخدام هذه المادة فيما بعد لعلاج الإنسان من بعض أنواع الأمراض المرتبطة بالكائنات الدقيقة. بالمناسبة، هذه المادة أُطلق عليها في البداية اسم "عصير العفن"، بعد ذلك صارت تُسمى "البنسلين" (Penicillin) نسبة إلى الفطر.
في البداية، اعتقد فليمنج أنّ البنسلين إنزيم، لكن بعد بعض التحقيقات، جاء بمصطلح أدق وهو "المضاد الحيوي"، وعلم من البداية أنه سيكون بحاجة إلى فريق بحثي متعدد التخصصات، وهم: "هوارد فلوري" و"إرنست تشين"، حتى يستطيعوا عزل البنسلين وتنقيته، ومن ثمّ استخدامه في الأغراض الطبية الأخرى.
اقرأ أيضاً: أوجمنتين: ماذا تعرف عن واحد من أشهر المضادات الحيوية؟
صعوبات رافقت إنتاج البنسلين
على الرغم من الجدالات الكثيرة التي دخلت فيها المجموعة البحثية أثناء العمل، لكنهم اجتمعوا على البحث الجاد، لاستخراج وإنتاج كمية كبيرة من البنسلين. وبعد سنوات من التجربة والخطأ، حصل الباحثون على كمية من البنسلين، لكنه لم يكن فعالاً بالصورة الكافية. بعد ذلك، حصلوا على كمية كافية من البنسلين تكفي لإجراء التجارب على الحيوانات، تمهيداً لبدء تجربتها على البشر والاستفادة منها.
بعد عرض النتائج الأولية لاكتشافهم، أصبحوا محط اهتمام كبير، وجاء التحدي الثاني، وهو استخراج كمية أكبر من البنسلين والاحتفاظ بها، وبدؤوا في تطوير أوعية للاحتفاظ بالسائل. وفي عام 1941، بدأت التجارب السريرية على البشر. لكن بسبب نقص جرعة البنسلين، واجه فريق البحث بعض العواقب.
على سبيل المثال، نورد قصة السيد "ألبرت ألكسندر" الذي كان شرطياً يبلغ من العمر 43 عاماً، أُصيب بعدوى مهددة للحياة، وظهرت علامات التعافي على الرجل بعد تلقي علاج بالبنسلين، لكن سرعان ما نفد مخزون البنسلين، ولم يُكمل جرعة العلاج، وعادت العدوى من جديد. وفي هذه المرة، فقد ألبرت حياته بعد 5 أيام.
اقرأ أيضاً: دليلك المبسط للتعرف على آلية عمل المضادات الحيوية
الطريق نحو التصنيع التجاري للبنسلين
وجد الفريق أنّه لا بد من اللجوء إلى شركات الأدوية، لمساعدتهم في إنتاج كميات أكبر، لكن للأسف، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد اندلعت الحرب العالمية الثانية، ولم يكن باستطاعة الصناعة البريطانية تطوير أي منتجات جديدة. وفي يونيو/حزيران 1941، قرر السيد "فلوري" اللجوء إلى مختبر أبحاث الزراعة في إلينوي في الولايات المتحدة الأميركية، وبالفعل اهتم فريق بحثي جديد هناك بالأمر، واستخدموا خزانات تخمير تعمل على تنقية البنسلين.
من حسن الحظ، كان هناك منتج ثانوي لنشاء الذرة في المختبر، أضافه الباحثون إلى التجربة، ولاحظوا كيف ازدادت كمية البنسلين، واتضح فيما بعد أنّ هذا المنتج يحتوي على تركيز عالٍ من السكريات والأحماض الأمينية والنيتروجين، ما يجعله بيئة فعّالة لتخمر فطر أقحوان البنسليوم. ثم بدؤوا البحث عن سلالات أخرى تستطيع إنتاج كمية أكبر من البنسلين، وكانت هناك استجابة من العلماء الآخرين في جميع أنحاء العالم، لكن هذه السلالات لم تكن مفيدة.
لقد كان الحل قريباً منهم لدرجة أنهم لم يلحظوه، فقد عثرت "ماري هانت" على سلالة موجودة في شمام متعفن في أحد أسواق المدينة، وكانت تحتوي سلالة العفن بداخله على كمية بنسلين تُعادل 6 مرات تلك التي كانت موجودة في سلالة فليمنج الأولى.
وجاء توقيت عرض المنتج على شركات الأدوية الأميركية. لم يلقَ الفريق البحثي اهتماماً كبيراً أو بعبارة أخرى، كان هناك حالة من التردد من تلك الشركات صوب الالتزام بإنتاج البنسلين حتى نهاية عام 1941.
يُقال إنّ "رب ضارة نافعة"، وهذا ما حدث في حالة البنسلين، فقد دخلت الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الثانية، وأدركت الشركات وقتها أنها ستحتاج كميات كبيرة من البنسلين، عندها استجابت الشركات. وبحلول عام 1943، كان هناك مخزون كافٍ من البنسلين للولايات المتحدة ودول الحلفاء لإمداد القوات المسلحة بالأدوية اللازمة.
وفي عام 1946، أصبح البنسلين متاحاً في بريطانيا العظمى، وأحدث تطوراً عالمياً في الطب. وبسببه، حصل الثلاثي: ألكسندر فليمنج وهوارد فلوري وإرنست تشين على جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا عام 1945. عند إمعان النظر في الأسماء السابقة، سنجد أنّ أكثر اسم ارتبط بالمضادات الحيوية هو ألكسندر فليمنج. لكن هذا لا يقلل من أهمية أدوار زملائه الآخرين.