مع كل شهيق، تتدفق التريليونات من جزيئات الأكسجين إلى رئتيك، ومنها إلى سائر خلايا الجسد. وفي حين تبدو تلك العملية بسيطة، وهي أساسية لأغلب أشكال الحياة، إلا أن آلية الخلايا لاستشعار الأكسجين والاستجابة الجزيئية لنقصه لم تتضح بشكلٍ كافٍ، لولا إسهامات 3 علماء خلال العقود الثلاث المنصرمة.
ففي السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2019، أعلنت الأكاديمية السويدية للعلوم منح جائزة نوبل في الطب لهذا العام، لكل من الأميركيين «وليام كايلين» من جامعة هارفرد الأميركية، و«جريج سيمنزا» من جامعة جون هوبكينز الأميركية، والبريطاني «بيتر راتكليف» من جامعة أكسفورد البريطانية، عن اكتشافهم لكيفية استشعار الخلايا للأكسجين، وكيف تستجيب لمعدل توافره.
https://www.facebook.com/nobelprize/photos/a.164901829102/10156727398254103/?type=3&theater
لاعب أساسي
قبل قرابة 2.5 مليار سنة، تغير مسار تطور الحياة للأبد، حيث طورت ميكروبات دقيقة قدرة مميزة على استخدام ضوء الشمس وثاني أكسيد الكربون لإنتاج السكريات، وإطلاق غاز الأكسجين، فيما يعرف بعملية البناء الضوئي.
أدى تراكم ذلك الغاز في الغلاف الجوي إلى أول انقراض جماعي مرت به الحياة على الأرض، بينما تمكنت الكائنات الناجية من تطويعه والاستفادة منه في إنتاج طاقتها، ليصبح لاعباً رئيساً لأغلب أشكال الحياة.
بعد فوز الثلاثي نفسه سوياً بجائزة «ألبرت لاسكر للأبحاث الطبية الأساسية» عام 2016. وضّح كل من سمينزا وراتكليف أن هدف أبحاثهم من البداية، كان الإجابة عن سؤال أساسي وهو: كيف تستجيب أجسامنا لانخفاض الأكسجين؟
https://www.facebook.com/nobelprize/photos/a.164901829102/10156727402939103/?type=3&theater
ومن المعروف أن العديد من التغيرات الفسيولوجية تطرأ على أجسامنا عند المكوث في بيئة منخفضة الأكسجين، ومنها تغيير معدل التمثيل الغذائي. تتكون المزيد من الأوعية الدموية، وينتج الجسم المزيد من خلايا الدم الحمراء لتحمل كمية أكبر من الأكسجين إلى الخلايا.
للإجابة عن هذا السؤال، قام كل من سمينزا وراتكليف بالبحث عن العوامل الجزيئية التي تقوم بتنشيط جين يشفر لبروتين يعرف بـ «EPO». وهو بروتين تنتجه خلايا الكلى، يعمل على زيادة إنتاج خلايا الدم الحمراء عند انخفاض الأكسجين.
تمكن الفريقان البحثيان من إثبات أن آلية استشعار الأكسجين موجودة في كل الأنسجة، وليست قاصرة على أنسجة الكلى وحدها، حيث ينتج هرمون «EPO». بينما توصل سمينرا في منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى اكتشاف محوري، حيث تعرف على بروتين فريد يقوم بتفعيل الجين المكود لهرمون «EPO» عند انخفاض الأكسجين. مَنح سمينزا ذاك البروتين اسم «هيف - HIF».
لاعب غير متوقع
في نفس الفترة، كان «ويليام كايلين» يدرس الأساس الجيني لداء «فون - هيبل لينداو - VHL disease»، وهو مرض وراثي نادر، يعرَف بظهور أورام متعددة في مناطق مختلفة من الجسم، ويرتبط بطفرات في جين يعرف باسم «VHL» على اسم المرض.
https://www.facebook.com/nobelprize/photos/a.164901829102/10156727645769103/?type=3&theater
وقد أثبتت أبحاث كايلين أن ذلك الجين في حالته الطبيعية يعمل على تثبيط تكون الأورام، إلا أنه ملاحظة إضافية بخصوص تأثير الجين الطافر. ربطت أبحاث كايلين بشرائكه الحاليين في جائزة نوبل، حيث لاحظ أن العديد من الجينات التي يتم تفعيلها من قبل بروتين «HIF» كانت نشطة في الخلايا السرطانية ذات جين «VHL» المعطوب.
بذلك أمكن تجميع قطع البازل في صورة واحدة. في حال توافر الأكسجين يرتبط بروتين «VHL» بعامل «HIF» ليقوم بتحليله، بينما يؤدي كل من انخفاض الأكسجين أو تعطل بروتين «VHL» إلى تغييرات تساعد الخلايا على تحمل نقص الأكسجين، والتي يلعب عامل «HIF» فيها دوراً رئيساً.
لماذا يعد هذا الاكتشاف هاماً؟
تمكن سمينزا وراتكليف من الكشف عن نشاط بروتين «HIF» في العديد من أنسجة الثدييات، وهو ما أثار انتباه المجتمع العلمي، بأن تلك الآلية لاستشعار الأكسجين، والاستجابة لمعدلاته، قد تكون جزءاً من آلية أساسية قديمة بين أشكال الحياة المختلفة.
ومن جانبه يقول كايلين في لقاء سابق بعد حصده جائزة عام 2016: إن بروتين «HIF» هو أشبه بمايسترو سمفونية، تشمل هذه السميفونية العديد من الجينات، منها ما يساعد الخلية على النجاة في حالة نقص الأكسجين، لكن منها أيضاً ما يرتبط بانقسام الخلايا، وقدرتها على غزو أنسجة مجاورة؛ في إشارة لارتباطه بالسرطان.
في الوقت الحالي، تعمل عدة معامل بحثية على استهداف تلك الآلية لعلاج أمراض شائعة مثل السرطان والأنيميا (فقر الدم)، والسكتة الدماغية، بينما ستزيد الأبحاث المقبلة من فهمنا لتفاعل الخلايا مع الأكسجين، الذي قضى يوماً على أغلب أشكال الحياة، وأعاد تشكيل ما تبقى منها.