دراسة جديدة تبين أن الأطفال الحديثي الولادة يميّزون الإيقاعات الموسيقية

3 دقيقة
دراسة جديدة تبين أن الأطفال الحديثي الولادة يميّزون الإيقاعات الموسيقية
حقوق الصورة: shutterstock.com/Roman Samborskyi

اكتشفت مجموعتي البحثية في عام 2009 أن الأطفال الحديثي الولادة يتمتّعون بالقدرة على تمييز الإيقاع المنتظم في الموسيقى. قد تبدو هذه القدرة غير ذات أهمية بالنسبة لأغلبيتنا، ولكنها مهمة جداً في تأليف الموسيقى والاستمتاع بها. أثار هذا الاكتشاف فضولاً كبيراً لدي، ما قادني لدراسة الآليات البيولوجية الكامنة وراء قدرة البشر المتأصلة على فهم الموسيقى، وهي قدرة يُشار إليها عادة باسم الموسيقيّة أو الحس الموسيقي.

الموسيقى كميزة تطورية للجنس البشري

باختصار، انطوت التجربة التي أجريناها على تشغيل إيقاعات الطبول وإزالة إيقاع ما من حين لآخر ومراقبة استجابة الأطفال الحديثي الولادة. ما أثار دهشتي هو أن هؤلاء المشاركين الصغار أظهروا أنهم يمتلكون حدساً تجاه الإيقاع المُزال؛ إذ شهدت أدمغتهم زيادة ملحوظة في النشاط تعكس أنها أدركت أن توقعاتها انتُهكت عند إزالة نغمة موسيقية. لم يبيّن هذا الاكتشاف البراعة الموسيقية التي يتمتّع بها الأطفال الحديثو الولادة فحسب، بل ساعد أيضاً على إرساء الأسس لمجال بحثي مزدهر يتخصص في دراسة منشأ الموسيقيّة.

الموسيقى ليست ظاهرة ثقافية فحسب، بل لديها جذور بيولوجية عميقة، ويبدو أنها قدّمت ميزة تطورية لنوعنا البشري.

مع ذلك، كما هي الحال عند اكتشاف أي شيء جديد، هناك علماء يشككون في هذا الاكتشاف (وهذا أمر يجب أن يحدث). اعترض بعض الزملاء على تفسيرنا للنتائج، واقترحوا تفسيرات بديلة تعتمد على الطبيعة الصوتية للمحفزات التي استخدمناها في التجربة. وجادل آخرون بأن ردود الفعل المرصودة كانت نتيجة للتعلم الإحصائي، وشككوا في صحة الاعتقاد الذي ينص على أن إدراك الإيقاع هو آلية مستقلة تؤدي دوراً مهماً في فهمنا للموسيقى. يستفيد الأطفال من عملية التعلّم الإحصائي على نحو مباشر عند تعلّم لغة جديدة، ما يمكّنهم من فهم العناصر مثل ترتيب الكلمات وتركيبات اللهجة الرائجة في لغتهم الأم. ما المانع إذاً في أن ينطبق الأمر نفسه على إدراك الموسيقى؟

اقرأ أيضاً: العلماء يطرحون عدة نظريات حول تطور الخلايا وازدهار أشكال الحياة

قررنا في عام 2015 إعادة النظر في دراستنا السابقة حول إدراك الإيقاع وتصحيح عيوبها وتوسيع مجالها ونطاقها وزيادة شمولية آلياتها بهدف الإجابة عن هذه الأسئلة، وقررنا مجدداً أنها يجب أن تشمل البالغين (الموسيقيين وغير الموسيقيين) إلى جانب الأطفال الحديثي الولادة وقردة المكاك.

الآلية المتميزة للإيقاع

تؤكّد النتائج التي نشرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 في مجلة الإدراك (Cognition)، على نحو لا لبس فيه أن إدراك الإيقاع هو آلية متميزة ومستقلة عن التعلم الإحصائي. توفّر الدراسة الجديدة أدلة متقاربة تبين أن الأطفال الحديثي الولادة يتمتّعون بالقدرة على إدراك الإيقاع. بتعبير آخر، لم تكن الدراسة الجديدة مجرّد تكرار للدراسة التي سبقتها، بل اعتمدت على نموذج بديل توصلنا باستخدامه إلى النتائج نفسها، ما يعني أنها نجحت في تبديد أي شكوك حول هذا الموضوع.

عندما طبقنا النموذج نفسه خلال دراسة قردة المكاك في عام 2018، لم نلاحظ أي أدلة تبين أنها قادرة على معالجة الإيقاع، وما لاحظناه هو أنها تتمتّع بحساسية تجاه تواقت الإيقاعات فقط (أي انتظامها في هذا السياق). يشير ذلك إلى أن تطور إدراك الإيقاع حدث تدريجياً لدى الرئيسيات، ووصل إلى ذروته عند البشر وظهرت سماته على نحو محدود في الأنواع الأخرى مثل الشمبانزي ومختلف الرئيسيات غير البشريّة الأخرى.

توفّر الدراسة الجديدة أيضاً المزيد من الأدلة التجريبية التي تدعم فرضية التطور الحركي الصوتي التدريجي التي سلّطتُ الضوء عليها في كتابي بعنوان "الأوركسترا الحيوانية المتطورة" (The Evolving Animal Orchestra) الذي نُشر في عام 2019، وهي فرضية تعالج أوجه التشابه والاختلاف في إدراك الإيقاعات وتأليفها بين البشر والرئيسيات الأخرى.

اقرأ أيضاً: ما تحتاج إلى معرفته عن استجابة الكر والفر وكيف يتفاعل الجسم مع المخاطر

تشير هذه الفرضية إلى أن الربط بين المناطق الدماغية الحركية والصوتية أوثق لدى البشر مما هو لدى قردة الشمبانزي أو الجبون، في المقابل تعد غير موجودة تقريباً لدى قردة المكاك.

لكن ماذا تعلّمنا الدراسة الجديدة عن منشأ الموسيقى، وما أهمية هذا السؤال؟

نحصل عند دمج نتائج الدراسة الجديدة مع أبحاثنا السابقة على أدلة متقاربة من نموذجين منفصلين يشيران إلى أن معالجة الإيقاع تؤدي وظيفة ما لدى الأطفال الحديثي الولادة. يدعم ذلك الحجة التي تنص على أن إدراك الإيقاع بحد ذاته له أساس بيولوجي.

لا تسهم الدراسة الجديدة في تعميق فهمنا للأسس البيولوجية للموسيقى فحسب، بل تؤكد أيضاً الطبيعة المعقّدة والمتعددة الأوجه لقدرتنا على إدراك العناصر الإيقاعية في البيئة السمعية والتفاعل معها. وبذلك، نستنتج أن الموسيقى ليست ظاهرة ثقافية فحسب، بل لديها أيضاً جذور بيولوجية عميقة، ويبدو أنها قدّمت ميزة تطورية لنوعنا البشري.

يزداد اهتمام المجتمع العلمي حالياً في منح الأولوية لدراسة المنشأ التطوري للموسيقى بين الأبحاث الدولية، وهذا مثير للحماس جداً. يهدف هذا المجال الذي كان تكهنياً فقط سابقاً لاستكشاف العمليات البيولوجية التي بدأت منذ ملايين السنين ومن المحتمل أنها أثّرت جداً في الطبيعة البشرية على مدى آلاف السنين الأخيرة.

وعلى الرغم من التحديات التي نواجهها الناجمة عن عدم قدرتنا على معرفة الكثير عن منشأ الموسيقى وعن أن أدمغتنا الموسيقية لا تترك آثاراً مادية لنتعقبها، شهد المجال تحولاً نموذجياً في العقود الأخيرة أدى إلى توجيهه نحو البحث التجريبي.

اقرأ أيضاً: ما الصفات التي يرثها الطفل عن أمه والتي يرثها عن أبيه؟

توفّر المجالات مثل البيولوجيا وعلم الجينوم، إلى جانب علم النفس وعلم الأعصاب، مجموعة أدوات فعالة لاختبار النظريات التجريبية حول منشأ الموسيقى حالياً. بالنتيجة، تكتسب البحوث الموسيقية الآن احتراماً أكبر في المجتمع العلمي، كما أن اتساقها يزداد ونضجها يتعزز. تزول الطبيعة التكهنية لمجال البحث في منشأ الموسيقى تدريجياً ليحل محلها نهج أكثر واقعية وصرامة من الناحية العلمية، ما يجعله مجالاً مثيراً وواعداً بالنسبة للذين يرغبون في كشف أسرار تطور الموسيقية لدى البشر.

المحتوى محمي