يبدأ الجميع حياتهم بمرحلة يتألفون فيها من بيضة ملقّحة فقط. وبحلول مرحلة البلوغ، تتحول هذه الخلية الوحيدة إلى نحو 37 تريليون خلية، ويستمر العديد منها في الانقسام لتشكيل الكمية نفسها من الخلايا البشرية الجديدة كل بضعة أشهر.
لكن هذه الخلايا تواجه تحدياً صعباً في هذه العملية. في الحالة المُثلى، يجب أن تنسخ كل خلية منقسمة عادية 3.2 مليار زوج أساسي من الحمض النووي، بمعدل مرة كل 24 ساعة تقريباً. تعمل آلية التضاعف الخلوية على نحو مذهل؛ إذ إنها تنسخ المواد الوراثية بمعدل عالٍ يصل إلى نحو 50 زوجاً أساسياً في الثانية.
مع ذلك، هذا المعدل أقل من أن ينسخ الجينوم البشري بأكمله؛ إذا بدأت آلية نسخ الخلية عند طرف كل صبغي من الصبغيات البالغ عددها 46 في الوقت نفسه، فستنتهي من نسخ أطول صبغي، الصبغي رقم 1 عند 249 مليون زوج أساسي، بعد نحو شهرين.
يقول عالم الأحياء البنيوية في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز في مدينة بالتيمور، جيمس برغر، الذي شارك في تأليف مقال عن تضاعف الحمض النووي في حقيقيات النوى في 2021 في مجلة أنيوال ريفيو أوف بايوكيمستري (Annual Review of Biochemistry): "الطريقة التي تحتال فيها الخلايا على ذلك هي أنها تُطلق عملية التضاعف في أكثر من موقع". تحتوي خلايا الخميرة على المئات مما يدعى بأصول التضاعف المحتملة، وتحتوي خلايا الحيوانات مثل الفئران والبشر على عشرات الآلاف من هذه الأصول منتشرة في جميع أنحاء جينوماتها.
يقول برغر: "لكن وجود عدد من أصول التضاعف يمثّل مشكلة بحد ذاته، فكيف تعرف الخلايا أين يجب أن تبدأ عملية التضاعف؟ وكيف تحدد توقيت هذه العملية؟" دون التحكم الدقيق في هذه العمليات، قد تُنسخ أجزاء من الحمض النووي مرتين، ما سيتسبب في مشكلات خلوية.
والتحكّم الدقيق في بدء عملية تضاعف الحمض النووي مهم بصورة خاصة لتجنب هذه المشكلات. اليوم، يحقق الباحثون إنجازات مهمة للتوصل إلى فهم مكتمل للضوابط والتوازنات الجزيئية التي تطورت من أجل ضمان أن يُطلِق كل أصل من أصول التضاعف عملية نسخ للحمض النووي مرة واحدة فقط، وذلك لتشكيل جينوم جديد كامل بدقة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكننا الاستفادة من علوم الأحياء الرياضية في دراسة تشابك الحمض النووي؟
النسخ الكامل للحمض النووي بدقة وسرعة
يمكن أن تؤدي الأخطاء في عملية التضاعف إلى عواقب وخيمة. يجب أن ينفتح الحلزون المزدوج للحمض النووي حتى تُنسخ المادة الوراثية، وتكون عندها الخيوط المفردة، التي يمثّل كلٌّ منها قالباً لتشكيل خيط آخر جديد، عرضةً للانقطاع. ويمكن أيضاً أن تتوقف العملية عند مرحلة معينة. يقول عالم الكيمياء الحيوية في معهد فرانسيس كريك في لندن، جون ديفلي: "يجب أن تنتهي عملية التضاعف بسرعة". يمكن أن تؤدي المشكلات في أثناء تضاعف الحمض النووي إلى فقدان الجينوم التنظيم، وهو من العوامل الأساسية التي قد تؤدي إلى الإصابة بالسرطان.
تؤدي المشكلات في تضاعف الحمض النووي أيضاً إلى بعض الأمراض الوراثية. على سبيل المثال، تنجم متلازمة ماير-غورلِن، التي تشمل أعراضها قِصر القامة وصغر حجم الآذان وصغر حجم عظم رأس الركبة أو غيابه، عن طفرات في العديد من المورثات التي تساعد على بدء عملية تضاعف الحمض النووي.
يتطلب إطلاق آلية نسخ الحمض النووي لعملية التضاعف في المرحلة الصحيحة من دورة حياة الخلية تفاعلاً منسقاً بدقة بين عشرات البروتينات. توصل الباحثون إلى فهمٍ جيد للبروتينات المختلفة وأدوارها في هذه العملية، وذلك لأنهم تمكنوا من إجراء عملية تضاعف الحمض النووي في خلائط حيوية خالية من الخلايا في المختبر. حاكى هؤلاء الخطوات الأولى البالغة الأهمية في مراحل إطلاق عملية التضاعف باستخدام بروتينات مستخرجة من الخميرة (النوع نفسه المستخدم لتحضير الخبز)، ونجحوا في محاكاة العديد من مراحل عملية التضاعف باستخدام بروتينات التضاعف البشرية أيضاً.
تتحكم الخلية في بدء تضاعف الحمض النووي من خلال عملية تتألف من خطوتين. يتمثل هدف هذه العملية في التحكم فيما يفعله إنزيم واحد بالغ الأهمية يحمل اسم الهيليكاز، الذي يفك الحلزون المزدوج للحمض النووي تحضيراً لنسخه. يتموضع عدد من إنزيمات الهيليكاز غير النشطة في الخطوة الأولى على أحد أصول التضاعف في الحمض النووي، حيث تبدأ عملية التضاعف. تُنشَّط هذه الإنزيمات في الخطوة الثانية لفك الحلزون المضاعف للحمض النووي.
اقرأ أيضاً: ما الصفات التي يرثها الطفل عن أمه والتي يرثها عن أبيه؟
التصاق الهيليكاز
تُطلق مجموعة تتألف من 6 بروتينات تتموضع في أحد أصول التضاعف عملية التضاعف. توصَّل فريق برغر إلى أن هذه المجموعة، التي تحمل اسم بروتينات أو آر سي (ORC)، لها شكل حلقة مزدوجة تحتوي على شق يسمح لها بالانزلاق على خيوط الحمض النووي.
يسهل تحديد مواقع بدء عملية التضاعف هذه في خميرة الخبّاز، وهي مادة يستخدمها العلماء الذين يدرسون تضاعف الحمض النووي كثيراً. تحتوي هذه المواقع على سلاسل حمض نووي أساسية محددة تتألف من 11-17 أساساً، غنية بأسس الأدينين والثايمين الكيميائية. راقب العلماء بروتينات أو آر سي وهي تلتصق بالحمض النووي وتنزلق على طوله بحثاً عن السلسلة الأصل حتى تجد الموقع الصحيح.
مع ذلك، يقول عالم الأحياء البنيوية في معهد فرانسيس كريك، أليساندرو كوستا، الذي شارك مع ديفلي في تأليف المقال السابق الذكر عن بدء عملية تضاعف الحمض النووي، إن الباحثين لم يتمكنوا من تحديد موقع بدء عملية التضاعف بدقة لدى البشر وأشكال الحياة المعقدة الأخرى، وليس من الواضح تماماً ما الذي يجعل بروتينات أو آر سي تنتقي نقطة محددة وتلتصق بها. يبدو من المرجح أن عملية التضاعف تبدأ بالنقاط التي يرتخي فيها الجينوم، الذي يكون عادةً ملتفاً بإحكام حول بروتينات تحمل اسم الهِستونات.
بمجرد التصاق بروتينات أو آر سي على الحمض النووي، فهي تجذب مُركّباً بروتينياً آخر يحتوي على إنزيم الهيليكاز الذي سيفك الحمض النووي في النهاية. استخدم كوستا وزملاؤه التصوير بالمجهر الإلكتروني لاكتشاف الطريقة التي تجذب وفقها بروتينات أو آر سي أول إنزيم هيليكاز ثم تجذب إنزيماً ثانياً. تتمتع هذه الإنزيمات بشكلٍ حلقي أيضاً، ويفتح كل منها ليلتف حول الحمض النووي المزدوج، ثم يغلق إنزيما الهيليكاز مرة أخرى، ويواجه كل منهما الآخر على خيوط الحمض النووي مثل خرزتين على خيط.
يثبت الإنزيمان على هذه الحالة في البداية؛ إذ إنهما غير نشطين بعد. وفي هذه المرحلة، تؤدي الخلية وظائفها كالمعتاد.
تنشيط الهيليكاز
تبدأ الخلية العمل مجدداً بتحفيز من جزيء بالغ الأهمية يحمل اسم سي دي كيه (CDK)، ما يُطلق خطوات كيميائية تجذب المزيد من البروتينات. أحد هذه البروتينات هو بوليميراز الحمض النووي، الذي يُطلق عليه كوستا اسم "الآلة الكاتبة". يركّب هذا البروتين خيوط الحمض النووي الجديدة ويلتصق بكل إنزيم من إنزيمات الهيليكاز. تنشّط بروتينات أخرى هذه الإنزيمات، التي تستهلك الطاقة للتحرّك عبر خيوط الحمض النووي.
يتغيّر شكل الإنزيمات عندما يحدث هذا، وتبدأ بدفع أحد خيوط الحمض النووي بينما تسحب الآخر. يولّد هذا إجهاداً على الروابط الهيدروجينية الضعيفة التي تربط الخيطين معاً عادة عند الأسس الكيميائية، وهي الأدينين والسيتوزين والثيامين والغوانين، التي تشكل الدرجات في سلم الحمض النووي. نتيجة لذلك، ينفك الخيطان عن بعضهما. رصد كوستا وزملاؤه كيف يفك إنزيما الهيليكاز الحمض النووي بينهما، وكيف يحافظان على استقرار الأسس غير المرتبطة ويبقيانها بعيدة عن موقع هذه العملية.
بدء عملية النسخ
في البداية، يلتف الإنزيمان حول خيطي الحمض النووي، ولا يمكنهما التحرك كثيراً في هذه الحالة لأنهما يواجهان بعضهما وسيصطدمان ببعضهما إذا تحرّكا. لكن بعد ذلك، يتغيّر موضع الإنزيمين؛ إذ يدفع أحدهما خيطاً من خيوط الحمض النووي خارج الحلقة. أصبح الإنزيمان منفصلين الآن، وبإمكانهما التحرّك متجاوزين بعضهما، وتستمر عملية التضاعف.
يتحرك كل إنزيم على طول الخيط الذي التصق عليه في الاتجاه المعاكس لحركة الآخر. يتجاوز الإنزيمان موقع الأصل ويفصلان الأزواج الأساسية المرتبطة بالروابط الهيدروجينية مع تحرّكهما. يتحرّك بوليميراز الحمض النووي مع الإنزيمين مباشرة، وينسخ أسس الحمض النووي فور تحرّرها من الأسس المرتبطة بها.
تتمثل الوظيفة الثانية لبروتين سي دي كيه في منع إنزيمات الهيليكاز الأخرى من الالتصاق بمواقع الأصل. بالتالي، تُطلق عملية التضاعف مرة واحدة لكل موقع أصل، ما يضمن نسخ الجينوم على نحو صحيح، مع العلم أن عملية النسخ لا تبدأ بالوقت نفسه في كل موقع. تستغرق عملية تضاعف الحمض النووي بأكملها في الخلايا البشرية نحو 8 ساعات.
اقرأ أيضاً: هل يتمكن التعديل الجيني بواسطة كريسبر من علاج العمى الوراثي؟
ولا يزال هناك الكثير من الخطوات. على سبيل المثال، لا يأخذ الحمض النووي المنسوخ شكل حلزون مزدوج عارٍ؛ إذ إنه يكون ملتفاً حول بروتينات الهستونات ومتصلاً بالعديد من البروتينات الأخرى التي تفعّل المورثات وتلغي تفعيلها أو تركّب نسخ آر إن أيه من المورثات. كيف تؤثّر هذه البروتينات المتحركة في بعضها بعضاً وتتجنب إعاقة بعضها؟
تساعد دراسة هذه العملية الحيوية المذهلة التي تعد أساسية بالنسبة لأشكال الحياة جميعها في الأرض على فهم الأمراض الخطيرة مثل السرطان. يعرف العلماء بالفعل أن الأخطاء في عملية التضاعف يمكن أن تزعزع استقرار الحمض النووي، ومن المحتمل أن يمثّل عدم استقرار الجينوم وتعرّضه للطفور سمة مميزة مبكرة للإصابة بالسرطان. يبحث العلماء الآن بتعمّق أكبر في العلاقة بين بروتينات التضاعف والسرطان،
يقول برغر: "أعتقد أن هناك إمكانية لتطوير تدخلات علاجية في هذه الأنظمة، وذلك بمجرد توصلنا إلى فهم واضح حول آلية عملها وطبيعتها".