من الحقائق المسلم بها عالمياً أنك إذا وضعت سماعات الرأس السلكية بسرعة في جيبك فإنها ستخرج وأسلاكها متشابكة بشكل غير منتظم. لهذا السبب تحتفظ عالمة الأحياء الرياضية مارييل فاسكيز بزوج من سماعات الرأس المتشابكة على مكتبها؛ فبالنسبة لها، يساعدها النظر إلى الأسلاك المتشابكة على تصور كيف يمكن لكل خلية بشرية مجهرية أن تحشر نحو مترين من خيوط الحمض النووي داخلها.
تشابك خيوط الحمض النووي داخل الخلايا
بالطبع، فإن خيوط الحمض النووي الملتوية داخل أجسامنا أكثر عرضة بكثير للتشابك مقارنةً بأسلاك سماعات الرأس. لكن الخلايا ستموت إذا لم تتمكن من تخزين هذه الخيوط الملتفة بكفاءة في مساحةٍ صغيرة بحيث تبقى قادرةً على الوصول إلى المعلومات الجينية التي تحملها. إن اكتشاف كيفية تمكن الخلايا من القيام بذلك هو إحدى المشكلات الصعبة التي تم تصميم مختبر فاسكيز متعدد التخصصات من أجل معالجتها، بالإضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار التطبيقات العملية لهذا الأمر مثل علاجات السرطان الجديدة.
يركز عمل المختبر على مجالٍ رياضي يُدعى «الطوبولوجيا»، والذي اكتشفته فاسكيز بمحض الصدفة في الكلية. تخصصت فاسكيز في الرياضيات عندما كانت طالبة جامعية في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، لكن ذلك لم يترك لها سوى فرصٍ قليلة لدراسة الكائنات الحية التي كانت تشعر بالفضول حيالها بها منذ المدرسة الثانوية. لكنها وجدت طريقةً لدمج اهتماماتها أثناء تلقيها فصلاً دراسياً في الطوبولوجيا، وهو تخصص يصنف الأشكال بناءً على قدرتها على التحول. على سبيل المثال، يعتبر هذا الاختصاص الكرة مكافئةً لمكعّب طالما كان من الممكن تحويل أحدهما إلى الآخر. ولكن الأمر مختلف تماماً مع الكعك؛ إذ يتطلب تحويل الكرة إلى حلقةٍ كالكعكة حفر ثقب فيها أو لصق نهاياتها معاً، ما يجعلهما شكلين مختلفين اختلافاً جوهرياً.
اقرأ أيضاً: فك شيفرة التاريخ البشري من خلال دراسة الحمض النووي للأسلاف
الخلايا المليئة بالجينات من الناحية الشكلية
خطرت ببال فاسكيز فكرة النظر إلى الخلايا المليئة بالجينات على أنها مشكلة طوبولوجية. تقول موضحةً: «يتلخص الأمر في حقيقة أن الحمض النووي عبارة عن سلسلة طويلة جداً يمكن أن تتناسب مع بيئة صغيرة». تحولت هذه الفكرة إلى رسالة دكتوراه لفاسكيز، ومن بعدها حصلت على درجة باحثة ما بعد الدكتوراه، وفي النهاية تمت تسميتها كأستاذة الرياضيات وعلم الأحياء الدقيقة والوراثة الجزيئية في جامعة كاليفورنيا، ديفيس.
على مدى العقدين الماضيين، استفادت فاسكيز من المفاهيم الطوبولوجية في بحثها لاكتساب رؤى أساسية حول كيفية تتبع أجسامنا لخيوط الحمض النووي. على سبيل المثال، يمكن لعلماء الرياضيات حساب "رقم فك التشابك" للأسلاك المتشابكة، والذي يمثل الحد الأدنى لعدد المرات التي يجب فيها حلّ الخيوط في التشابك حتى تنفصل الخيوط عن بعضها ونتخلص من كامل الفوضى. أثبت عمل فاسكيز أن هناك مجموعة معينة من الإنزيمات يبدو أنها تعرف "رقم فك التشابك" داخل الخلايا، وهي تميل إلى الوصول إلى الحمض النووي تحديداً عند الضرورة لتقوم بفك التشابكات المعقدة بكفاءة بدلاً من اتخاذ مسارات أكثر تعقيداً.
يمكن أن يساعد التقدم الذي حققه فريقها علماء الأحياء على فهم كيفية لف وحشر الحمض النووي داخل الفيروسات بشكلٍ أفضل، الأمر الذي من شأنه أن يلقي الضوء على كيفية انتشار الأمراض، وقد يقود أيضاً إلى تطوير علاجاتٍ تستهدف الإنزيمات المسؤولة عن تفكيك الجينات داخل الخلايا السرطانية وإيقاف نموها بالتالي.
اقرأ أيضاً: قتل الخلايا السرطانية باستخدام بكتيريا غازية متفجّرة
لكن فاسكيز مهتمة بشكل خاص بجوهر بحثها الأساسي. فمن خلال دراسة كيفية ملائمة الحمض النووي في الخلايا، يطور علماء الرياضيات مفاهيماً أكثر عمقاً حول الأشكال بشكلٍ عام. يمكن أن يكون للاكتشافات المخبرية، كالتي تجري في مختبر فاسكيز، فوائد تتجاوز الجسم البشري، من ابتكار مواد جديدة في مجال الإلكترونيات والحوسبة وحتى الكشف عن سبب إطلاق الحقول المغناطيسية الفوضوية للتوهجات الشمسية.