- منذ أرسطو، قام العلماء بتشريح الحيوانات الحية وتحفيزها وإجراء مختلف التجارب عليها سعياً وراء المعرفة (هل تذكرون تجربة كلب بافلوف؟)، ولكن بحلول نهاية القرن العشرين، أصبحت تربية المخلوقات التي تعيش في الأماكن المظلمة ضرورية لإجراء التجارب الهادفة لفهم وظائف الأعضاء لدى البشر. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كان الطلب على فئران التجارب مرتفعاً لدرجة أن ذلك كان يدعم قطاع الصناعة الأميركية بأكملها. في الواقع، يمكن تتبع جذور بعض سلالات القوارض الشائعة الآن- فئران جاكس هي المفضلة- إلى عصر الجاز (خلال فترة عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي).
منذ إقرار قانون الرفق بالحيوان الأميركي في عام 1966، انخفض استخدام المخلوقات الأكبر حجماً بشكل مطرد- لم يُستخدم سوى 800 ألف حيوان في التجارب المخبرية عام 2019- لكن ما تزال الفئران والجرذان مستخدمة في التجارب على نطاق واسع. تستخدم الولايات المتحدة أكثر من 100 مليون من هذه القوارض سنوياً، والعديد منها معدل وراثياً بهدف استخدامها في المختبر. تؤرخ هذه القصة التالية، والتي كتبها إتش سي ديفيس في عدد «بوبيولار ساينس» الصادر في مايو/أيار عام 1927، لظهور أسلاف الفئران ذات الفراء الأبيض.
اقرأ أيضاً: العناية بفئران التجارب ضرورية من أجل البحث العلمي
الفئران التي تذهب إلى الكلية (بقلم إتش سي ديفيس، مايو/أيار 1927)
باتت الفئران، العدو القديم للبشرية، تُرسل الآن إلى الكلية بصفتها صديقاً للبشرية. في حين يتم اصطياد جرذ الأحياء الشرير وقتله باعتباره حاملاً للأمراض، حظي ابن عمه المفضل، الفأر الأبيض، بالدلال والتعليم من خلال استخدامه في التجارب العلمية الرائعة التي هدفت لتحسين صحة الجنس البشري وجعله أكثر سعادة وحكمة.
لماذا تُستخدم الفئران دون غيرها في الاختبارات؟
في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، خضع 500 فأر أبيض- تمت تربيتها وتغذيتها وإيوائها بعناية- مؤخراً لاختبارات ذكاءٍ قد تؤدي إلى اكتشافات قيمة حول عملياتنا العقلية. وفي مختبر كروكر بجامعة كولومبيا، تتم دراسة نحو 9 آلاف فرد من نفس عائلة القوارض لاكتشاف أسرار جديدة حول الوراثة لدى البشر واكتساب رؤى مفيدة في مكافحة الأمراض. في الواقع، تطلب المؤسسات العلمية في جميع أنحاء العالم اليوم هذه المخلوقات ذات الذيل الطويل بأعداد كبيرة لدرجة أن تربية الفئران على نطاق واسع ترسخت كصناعة أميركية غير عادية.
في فيلادلفيا، يحتفظ معهد ويستار للتشريح والكيمياء الحيوية بمعداتٍ تبلغ قيمتها 60 ألف دولار خاصةٍ بتربية الآلاف من القوارض بهدف خدمة البشرية. حيث يتم شحنها من هناك إلى المخابر في أجزاء كثيرة من العالم.
السبب الرئيسي الذي جعل الفأر الأبيض الصديق المفضل للعلماء هو أنه يشبه البشر ببنيته ونموه وعملياته الجسدية، وبالتالي يمكن الاعتماد نسبياً على استجابته للاختبارات الجسدية واختبارات الذكاء لمعرفة المزيد عن أجهزتنا العقلية وأعضاء جسمنا.
على سبيل المثال، في مجال دراسة العادات، اختبر المجربون في جامعة ستانفورد تحت إشراف الأستاذ كالفن بي ستون قدرة الفئران على اكتساب عادات جديدة والتخلص من العادات القديمة. لهذا الغرض، استُخدمت في هذه الاختبارات أجهزة مبتكرة، يُدعى الجهاز الأول «صندوق المشكلات»، وهو عبارة عن حاوية مغطاة مع باب يؤدي إلى صندوق آخر من الطعام. الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها للفأر المسجون في صندوق المشكلات الوصول إلى الطعام هي الصعود إلى منصة صغيرة على جانب الصندوق، حيث يتم وصل تيار كهربائي عندما يحدث ذلك ليقوم بفتح الباب. يخضع كل فأر تحت الاختبار لهذا الاختبار مرة واحدة يومياً لمدة 20 يوماً، وهناك سجلٌ يحتوي على الوقت اللازم لفتح الباب، حيث تُظهر السجلات المعدل الذي تتشكل به العادة. بالإضافة إلى ذلك، يُكرر الاختبار بعد مرور 50 يوماً لتحديد القدرة على الاحتفاظ بهذه العادة.
اقرأ أيضاً: تعرضت للإشعاع الكوني: ولادة فئران من حيواناتٍ منوية حُفظت في الفضاء
الجهاز الآخر هو «المتاهة»، ويتكون من العديد من الحارات التي لا تؤدي إلى مخرج، ولكن يوجد مسارٌ واحد يؤدي مباشرةً إلى المخرج حيث تم وضع الطعام. في الاختبارات المتكررة، تُقاس القدرة على التعلم بعدد الأخطاء والوقت المستغرق لاجتياز المتاهة.
تبين أن الفأر يتطور جسدياً بمعدل أسرع من تطور الإنسان بنحو 30 مرة، وتشير الاختبارات أيضاً، وفقاً لستون، إلى أن النمو العقلي للفأر أسرع بخمسين مرة من النمو العقلي للإنسان.
أثبتت الفئران أيضاً أنها ذات قيمة كبيرة في الدراسات الوراثية. في الواقع، تستغرق دراسة أربعة أجيال من البشر نحو قرن من الزمن. بينما يمكن اختصار هذا الزمن مع استخدام الفئران إلى عامين فقط، لأن قوانين الوراثة التي تحكم عائلة الفئران هي في الأساس نفس قوانين الوراثة التي تتحكم في حياة البشر.
اقرأ أيضاً: للمرة الأولى: علماء ينجحون في إتمام تكاثر لا جنسي عند الفئران
فئران أرستقراطية
ساعدت فئران المختبر مؤخراً العلماء في إثبات كيف يمكن للعلم أن يسهم بالقضاء على أقاربها التي تحمل مرض الطاعون. فقد تم اكتشاف نوعٍ من البكتيريا، تُدعى «راتينين» (ratinin)، يمكن أن تقتل الفئران ولكنها غير مؤذية للبشر أو الحيوانات الأليفة. عند إضافتها إلى الطعوم، تنتشر هذه البكتيريا بين القوارض بشكلٍ وبائي وتقتلها.
يمكننا اعتبار الفأر الذي يذهب إلى الكلية أرستقراطياً، فهو يُربى في بيئة نظيفة تماماً، مع أوقات النوم والتمارين الرياضية المنظمة بعناية كما الطفل. عندما يلتحق بالجامعة، يجب أن يكون في حالة جيدة وجاهزاً لأي اختبار. تقوم "المدارس الإعدادية"، إذا جاز التعبير، مثل معهد ويستار بتخريج الفئران "المعيارية" بحيث تتشابه مع بعضها بعضاً جسدياً وصحياً، ويمكن إجراء الاختبارات عليها ومقارنة نتائج أحدها مع نتائج الفئران الأخرى مباشرةً.