تعتبر الخفافيش ماهرة في التعرف على الأصوات، وترجع هذه المهارة في جزءٍ كبير منها إلى آلية عمل آذانها الكبيرة وهيكلها الفريد. في تقرير نُشر في دورية «نيتشر» مؤخراً، ذكر الباحثون أن مجموعةً من سمات الأذن الداخلية الفريدة قد تفسر كيف طورت إحدى مجموعات الخفافيش استراتيجيات متطورة لتحديد الموقع بالصدى ساعدتها على الازدهار في مختلف أنحاء العالم باستثناء القارة القطبية الجنوبية.
فحص الباحثون جماجم 39 نوعاً من الخفافيش من مجموعتين كبيرتين تُدعيان «ينبتروشيروبترا» (Yinpterochiroptera) و«يانغوتشيروبترا» (Yangochiroptera)، واكتشفوا أن مجموعة يانغوتشيروبترا، والتي تضم معظم عائلات الخفافيش و82% من الأنواع التي تملك استراتيجية الصدى، تتمتع بآذان داخلية مختلفة عن بقية الحيوانات الثديية الأخرى، إذ تمتلك هذه الخفافيش أذناً داخلية بالإضافة لمساحة إضافية داخل القوقعة والمزيد من الخلايا العصبية، ما قد يساعدها على الصيد في بيئات متنوعة كثيرة.
استراتيجية تحديد الموقع بالصدى
يقول بروس باترسون، المسؤول عن قسم الثدييات في متحف فيلد للتاريخ الطبيعي في شيكاغو وأحد مؤلفي الدراسة: «نفترض أن هذه الميزات تسمح لها بالتواصل من خلال استراتيجية تحديد الموقع بالصدى المعقدة بالفعل، والتي تُشتهر بها خفافيش يانغوتشيروبترا».
تُقسم الخفافيش تقليدياً إلى مجموعتين: «ميغاتشيروبترا» (Megachiroptera) و«ميكروتشيروبترا» (Microchiroptera) أو الخفافيش الكبيرة والخفافيش الصغيرة. تضم مجموعة الميغاتشيروبترا الخفافيش التي تُعرف بالثعالب الطائرة، والتي عادة ما تعثر على الفاكهة والرحيق اعتماداً على البصر والرائحة، على الرغم من أن القليل منها تستخدم نقرات اللسان لإصدار إشاراتٍ صوتية تحدد موقعها بالصدى. بينما تضم مجموعة الميكروتشيروبترا الخفافيش التي تستخدم نوعاً من استراتيجيات تحديد الموقع بالصدى ينطوي على إصدار أصواتٍ من الحنجرة، يُعرف بالصدى الحنجري. تتغذى هذه المجموعة من الخفافيش على الحشرات- بما فيها الآفات الزراعية- والحيوانات الصغيرة.
ومع ذلك، أشارت الأدلة الجينية منذ عام 2000 إلى أن بعض أنواع خفافيش مجموعة الميكروتشيروبترا ترتبط بشكلٍ وثيق بمجموعة الميغاتشيروبترا أكثر من ارتباطها بمجموعة الميكروتشيروبترا. دفع هذا الباحثين إلى اقتراح مجموعتين جديدتين. تعيش خفافيش مجموعة ينبتروشيروبترا في نصف الكرة الشرقي وتضم خفافيش الثعالب الطائرة بالإضافة إلى عدد قليل من العائلات الأخرى مثل خفافيش حدوة الحصان وخفافيش ذيل الفأر. في المقابل، عُثر على 938 نوعاً من مجموعة يانغوتشيروبترا حول العالم، وتشمل هذه الأنواع خفافيش الذيل الحر والخفافيش مصاصة الدماء والخفافيش ذات وجه الشبح والخفاش البني الكبير والخفاش الأبيض الهندوراسي الجذاب والمشهور جداً.
كيف تتمايز الخفافيش عن بعضها
لقد أدى التنوع الواسع في التكيفات بين هذه الخفافيش إلى ثني العلماء عن البحث عن السمات التشريحية التي قد تميز مجموعة يانغوتشيروبترا عن مجموعة ينبتروشيروبترا. يقول باترسون في هذا الصدد: «يوجد معظم التنوع في مجموعة يانغوتشيروبترا. لذلك فإن العثور على شيء ما يربطها ببعضها بعضاً كان أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، ولكن يبدو أن ميزات الأذن الداخلية هي ما يجمع بينها بالضبط».
قام باترسون وزملاؤه بفحص جماجم 19 عائلة من أصل 21 عائلة من الخفافيش الموجودة حالياً. استخدم الفريق التصوير الطبقي المحوري للنظر داخل الجماجم الصغيرة وفحصوا المقاطع العرضية الدقيقة لهياكل الأذن الداخلية تحت المجهر.
لقد امتلكت الثدييات منذ العصر الجوراسي ترتيباً مميزاً لبنية الأذن الداخلية داخل قوقعة الأذن الحلزونية. تنقل مجموعة من أجسام الخلايا العصبية تسمى «العقدة» النبضات العصبية التي تتلقاها خلايا الألياف العصبية إلى الدماغ، وتوجد العقدة عادةً في جدار عظمي سميك يتخلله مسام دقيقة تسمح بمرور الألياف العصبية عبرها.
لكن الأمر مختلف لدى مجموعة يانغوتشيروبترا. يقول باترسون موضحاً: «يتوسع الجدار العظمي مع نهاية اللولب الحلزوني. في بعض الخفافيش، تتسع المسام الصغيرة كثيراً وتصبح كبيرة بحيث تسمح بمرور حزم كبيرة من الألياف العصبية. في النهاية، يتلاشى الجدار العظمي وتخرج العقدة من القناة بالفعل. بينما يغيب الجدار العظمي على طول القناة العقدية لدى بعض الخفافيش الأخرى ضمن هذه المجموعة. نتيجة لذلك، يمكن لأذن الخفافيش استيعاب المزيد من الخلايا العصبية لتلقي الإشارات السمعية الواردة».
تمتلك خفافيش يانغوتشيروبترا قناة أذن داخلية مفتوحة دون جدارٍ عظمي، ما يسمح بمزيد من الاختلاف التطوري للخلايا العصبية في العقدة، والتي تتميز تماماً عن الثدييات الأخرى.
ويضيف باترسون: «يفترض ذلك أن التحرر أكثر من قيود القناة العظمية، بالإضافة إلى حجم العقدة الأكبر وارتباط الألياف العصبية بقوة أكبر هو المسؤول عن التنوع الهائل في خفافيش اليانغوتشيروبترا».
تكيف تطوري لاستخدام هذه التقنية
ترسل الأنواع التي تنضوي تحت مجموعة يانغوتشيروبترا وتستخدم تقنية تحديد الموقع بالصدى نبضاتٍ صوتية بتردد ثابت. ويقول باترسون إن هذا النوع من تحديد الموقع بالصدى مفيدٌ جداً للعثور على الحشرات التي تتحرك بسرعة بين الأوراق وبقايا النباتات، لكنه لا يفيد كثيراً عند الصيد في الهواء الطلق. تصدر خفافيش يانغوتشيروبترا موجات تحديد الصدى بفواصل زمنية أطول بترددات عالية في البداية قبل أن تنخفض الترددات. تمنح هذه الموجات الثدييات الطائرة "شعاعاً كشافاً" أكثر قوة يمكنه الانتقال لمسافةٍ أطول وجمع معلوماتٍ متنوعة أكثر عن محيطها.
يمكن تكييف هذه الاستراتيجية مع نطاق أوسع من الظروف. يقول باترسون: «إنها تمثل نوعاً من التطور التكيفي للخفافيش، لأنها سمحت لها بإجادة الطيران ليلاً وحررتها من التركيز على الشجيرات».
ويقول بروك فينتون، عالم الأحياء في جامعة ويسترن في لندن، أونتاريو، في مراجعة قصيرة نشرت في نفس العدد من دورية نيتشر: «تشير النتائج إلى أن خصائص القنوات العظمية لدى خفافيش ينبتروشيروبترا قد تطورت بمرور الوقت لتشكّل بنية الأذن الداخلية الفريدة التي تتمتع بها خفافيش يانغوتشيروبترا». ويدعم ذلك فكرة أن تحديد الموقع بالصدى ظهر قبل هذا الانقسام، وغابت هذه القدرة لاحقاً بين بعض الخفافيش في مجموعة ينبتروشيروبترا.
وتقول إما تيلينغ، الأستاذة وعالمة بيولوجيا الخفافيش في جامعة كوليدج بدبلن وغير المشاركة بالبحث في رسالةٍ بالبريد الإلكتروني: «هذه خاصية جديدة مثيرة في الثدييات تم تحديدها في الخفافيش، حيث يمكن أن تلقي الضوء من جديد على كيفية تطور استراتيجية تحديد الموقع بالصدى الحنجري في الثدييات، وتعالج نقاشاً طال أمده حول تطور هذه الخاصية».
جدير بالذكر أن الباحثين قد حددوا نوعين من خفافيش يانغوتشيروبترا التي، وعلى عكس أقاربها، لديها جدار عظمي سميك يمتد على طول القوقعة بالكامل. ليس من الواضح سبب حدوث هذا الانعكاس التطوري، على الرغم من أن باترسون يعتقد أنه مرتبط باستراتيجية الصيد عالية التخصص التي تتبعها الخفافيش، والتي تنطوي على انزلاق الخفافيش فوق سطح الماء والتقاط الأسماك الصغيرة أو الحشرات بأقدامها.
تسلط الملاحظة الأخيرة الضوء على حقيقة أن العديد من الأسئلة حول تطور تحديد الموقع بالصدى في كلا المجموعتين من الخفافيش لا يزال بحاجة إلى المزيد من التحقيق، كما يقول باترسون.